تحقيقات وتقارير

مغرمون بتكسير الجيش السوداني

الأطراف السودانية تمارس لعبتها وهي تعلم أن الدولة يمكن أن ينفرط عقدها، ومهما كان الخلاف مع الجيش يظل الحجر الذي يجب أن يتكئ عليه كل سوداني للحفاظ على وحدة بلاده.
مرّ السودان بأزمات عديدة على مدار العقود الماضية، ونجحت المؤسسة العسكرية العريقة في الحفاظ على قدر جيد من تماسكها ومنع سقوطها وتفرق وحداتها، وهو ما جعلها أحد أهم أركان الحل والعقد في البلاد، حيث تتدخل لحل المشكلات عندما تتصاعد حدتها وتجري تغييرات جوهرية في الطبقة السياسية عبر انقلاباتها المتباينة.

ظهرت هذه المؤسسة بعد سقوط نظام الرئيس عمر البشير كرمانة ميزان بين القوى المختلفة إلى أن انحرفت عن مسارها وأوحت تصرفات أقدم عليها البعض من قادتها أنها طامعة في السلطة السياسية، والتي تعززت ملامحها من خلال حرب تخوضها في اتجاهات متعددة، والتصقت بها الكثير من التهم الكفيلة بأن تجبر جنرالاتها على العودة إلى ثكناتهم والاقتصار على أداء وظيفتهم العسكرية.
أخذت توجهات الطمع في السلطة أو المناورة بالعودة إلى الثكنات تصعد وتهبط وفقا للأجواء العامة، لأن قيادة الجيش بدت منقسمة على نفسها وغير راغبة في الخروج من المشهد السياسي، ويصر البعض على السباحة ضد التيار المدني الذي وضع تنحية المؤسسة العسكرية عن السلطة هدفا في جميع تصرفاته، والتي تزداد قناعة مع كل خطوة يقدم عليها الجيش وممارسات تشير إلى عدم التفريط في الحكم.

المغرمون بهدم الجيش يجدون في هذه المرحلة كبش فداء ومظلومية يبثون من خلالها ألمهم وصواب رؤيتهم ومخاوفهم المبكرة من المؤسسة العسكرية
هناك تيار في السودان يمكن وصفه بـ”المغرمين بتكسير عظام الجيش”، يضم كل من يتحدث بالحق أو الباطل عن خروج المكون العسكري من المشهد السياسي، ويتسع نطاق أعضاء هذا التيار أو النادي مع كل خطوة تظهر تمسك قيادة الجيش بالسلطة، على الرغم من الخطاب المليء بعبارات تنطوي على استعداد لتسليمها لحكومة مدنية.
كشفت التقديرات التي يتبناها كل من رئيس مجلس السيادة الفريق أول عبدالفتاح البرهان ونائبه الفريق أول محمد حمدان دقلو (حميدتي) عن مقاطع مهمة في الخلاف حول تسليم السلطة لحكومة مدنية، كفيلة بأن تزعزع ما تبقى من ثقة فيهما.
وقد أدت بعض ألاعيب الجيش إلى زيادة حالة الاستنفار ضده، وتراجعت مصداقيته إلى الدرجة التي اهتزت معها الثقة في قياداته الوطنية، والترويج لحدوث انقلاب عسكري والإشارة إلى “ساعة الصفر”، وسواء قام به قادة من المنتمين للحركة الإسلامية ومن المحسوبين على نظام البشير السابق أو غيرهم، ففي الحالتين هناك ردة وعودة مباشرة إلى حقبة قاتمة عبر انقلاب عسكري جديد.
نجحت بعض الانقلابات السابقة وقطعت شوطا في تثبيت أركان حكمها في الخرطوم، غير أن الصورة مغايرة في الوقت الراهن وأي خطوة في هذا الاتجاه لن تبقي السودان الذي نعرفه على حاله، فالدولة تعيش مرحلة صعبة من الغليان، وتنتشر فيها الحركات المسلحة، وارتفعت الاحتقانات القبلية لمستوى كبير، وصارت العلاقة بين المركز والأطراف حافلة بالألغام.

بعض ألاعيب الجيش أدت إلى زيادة حالة الاستنفار ضده
صعد الحالمون بإحكام قبضة الجيش على السلطة وتنحية المدنيين، والراغبون في إبعاد المؤسسة العسكرية تماما، إلى حافة الهاوية، وكل فريق بات هدفه إثبات أن الطرف الآخر على خطأ، لا يهم مصير السودان الذي لا ينقصه خروج الخلاف حول دور الجيش في الحياة السياسية إلى مربع قد يصعب تطويقه.
يمارس كل طرف لعبته وهو يعلم أن الدولة على محك مفصلي، ويمكن أن ينفرط ما تبقى من عقدها بسهولة، ومهما كان الخلاف مع الجيش يظل هو الحجر الذي يجب أن يتكئ عليه كل سوداني للحفاظ على وحدة بلاده ومنع انهيارها.
سقطت دول أكثر تماسكا من السودان جغرافيا واجتماعيا وسياسيا، ومرت بما هو أقل من المناوشات العسكرية الذي يعيشه، ولم تستطع العودة مرة أخرى، وهو ما يراه سودانيون في سوريا وليبيا واليمن والعراق، وقبلها في الصومال.
يسير السودان على الحافة منذ سنوات، ونجا بأعجوبة من ثورات الربيع العربي، وعلى قواه الحية العسكرية والمدنية الابتعاد عن الوقوع في الفخ الجديد، والذي تظهر تجلياته مع كل مقاربة غير صادقة أو مبادرة لتشتيت الانتباه حول الأزمة الرئيسية.
قرأت معلومات مفزعة عن حجم المهاجرين من السودان إلى دول مجاورة، جميعها تؤكد أنه أصبح يضيق بأهله وأن فرص التسوية السياسية فيه ضئيلة للغاية، ويتزايد احتمال تفسخه مع كل يوم يمر من دون حل أزماته المتراكمة، في مقدمتها أزمته الاقتصادية التي تعصف بشرائح عديدة في الدولة.
يبدو أن قواه المدنية والعسكرية غير منتبهة جيدا لأعداد المغادرين عبر مطار الخرطوم ولا يهمّها من يهاجر بالبر والبحر والنهر، أو من يبقى في البلاد، فقد طغى صراع السلطة على كل ما عداه من قضايا حيوية، ويمكن أن تفضي المرحلة الجديدة من الخلافات التي تبشر بانقلاب عسكري قادم إلى خروج الأزمة عن السيطرة.
يجد المغرمون بهدم الجيش في هذه المرحلة كبش فداء ومظلومية يبثون من خلالها ألمهم وصواب رؤيتهم ومخاوفهم المبكرة من المؤسسة العسكرية، ويروّج المغرمون بفرض هيمنة الجيش أنهم أنقذوا البلاد من الهلاك ومنعوها من السقوط في جيب من لا يقدرون مفهوم الدولة.

أخذت توجهات الطمع في السلطة أو المناورة بالعودة إلى الثكنات تصعد وتهبط وفقا للأجواء العامة، لأن قيادة الجيش بدت منقسمة على نفسها وغير راغبة في الخروج من المشهد السياسي
وصلت حالة الاستقطاب إلى منحنى خطير، لا تستطيع معها شريحة كبيرة من المواطنين التفرقة بين الصواب والخطأ، فالتشويش يطغى على خطاب العسكريين والمدنيين، ويمكن استشفاف البعدين في الخطاب الواحد لأن المصالح الحزبية والفئوية تقدمت على مفهوم الدولة الحديثة التي تنهض على أكتاف الوطنيين.
لن يرتاح المغرمون بهدم الجيش إذا وصلوا إلى هدفهم، ربما تزداد معاناتهم مع كثافة الجيوش المناطقية في السودان، فقد أخفقت اتفاقية السلام في جوبا وتوابعها في تطبيق أحد أهم بنودها المتعلق بدمج الحركات المسلحة في الجيش النظامي وتسريح من يستحقون التسريح وتعويضهم ماديا.
ولن يرتاح من يصرون على البقاء في السلطة بلا سند شرعي لأنهم يدخلون الجيش في الطريق المجهول، فلم تعد القصة محصورة في نزول عشرات الدبابات إلى شوارع الخرطوم والسيطرة على مبنى الإذاعة والتلفزيون ومن يسبق في إذاعة البيان الأول تخضع له البلاد والعباد، فالأوضاع تبدلت وأخذت تتضاءل فكرة الانقلابات التقليدية.
يشير اليقين الظاهر على تحركات قوى مدنية إلى هذه المسألة، ويؤكد تردد الجيش في القيام بهذه الخطوة أن الأمور أكبر من نزول الدبابات إلى الشوارع وأخطر من إذاعة بيانات، هناك عالم يتبلور يجعل من الانقلابات في دولة مثل السودان مخاطرة كبيرة.
يؤدي تكسير هياكل الجيش إلى دخول السودان النفق الأشد ظلاما الذي جرى التحذير منه مبكرا من قبل قوى وطنية لم تنسق وراء الفجوة الحالية وتعلم أن الخلاف مع المؤسسة العسكرية لا يجب أن يخرج عن السيطرة، فكل طرف يحتاج للآخر، وهي المعادلة التي من الضروري أن يتأسس بموجبها التفاهم بينهما قبل فوات الأوان.

صحيفة (العرب اللندنية)

 

اضغط هنا للانضمام لقروبات كوش نيوز على واتساب

قروبات كوش نيوز الإضافية



زر الذهاب إلى الأعلى