تحقيقات وتقارير

الحكومة والتسويات المالية.. تعبيد الطريق لهروب القطط السمان

ضجة إعلامية خلفّت أسئلة كثيرة تحيط بجدوى الحراك الحكومي وجهود السلطات ذات الاختصاص بشأن إجراءات محاربة الفساد وملاحقة القطط السمان حيث تم وضع قوانين لاجتثاث الظاهرة وإنشاء محكمة معنية بجرائم الفساد والمال العام وفي خضم ذلك ظهرت أسماء عديدة نشطت السلطات التنفيذية في محاصرتها ورغم التبشير وتأسيس المحكمة خاصة إلا أن السلطات لجأت إلى التسويات الأمر الذي أحدث إحباطاً وسط المتفائلين بمحاربة الفساد والمفسدين سيما وأن البعض يرى عدم أحقية أية جهة في اتخاذ قرار بشأن أموال تخص الشعب الأمر الذي رآه كثيرون دعوة للفساد وتشجيعاً  لأكل أموال الناس بالباطل ولم يستبعدوا أن تكون التسوية حماية لأسماء وشخصيات بعينها وتخليصها من المحاكمة.

 

أمر تأسيس

وفق توجه الدولة وطبقاً لحديث رئيس الجمهورية المشير عمر البشير في فاتحة أعمال الهيئة التشريعية 2017م فيما يتعلق بالحرب على الفساد ومكامنه والقضاء عليه وعلى المضاربات والثراء الحرام أصدرت السلطة القضائية أمر تأسيس محكمة جنايات تختص بمكافحة الفساد ومخالفات المال العام ونظر الدعاوى الخاصة بقضايا الفساد واستغلال النفوذ والتعدي على المال العام و تخريب الاقتصاد الوطني، وأضاف أن الخطوات تأتي للكشف عن المال الحرام والمشبوه وغسيل الأموال وتشديد الحرب على الفساد والتي لن تتوقف حتى تسترد أموال الشعب المنهوبة وأشار رئيس القضاء مولانا حيدر أحمد دفع الله إلى أن مقر المحكمة ولاية الخرطوم ويجوز لها أن تنعقد في أية ولاية أخرى على أن تشكل دوائر خاصة بمحكمة الاستئناف والمحكمة القومية العليا لنظر الاستئنافات والطعون في الأحكام الصادرة من محكمة جنايات مكافحة الفساد ومخالفات المال العام.

فلاش باك

ليست المرة الأولى التي نادت فيها الحكومة بمكافحة الفساد، فقد سبق أن تعهد وزير العدل الأسبق محمد بشارة دوسه بتطبيق قانون (من أين لك هذا)، وذلك في عام 2012 مشيراً إلى أنه لن يأخذ الناس بالشبهات، وأنه سينقل مكتبه فورًا لنيابة الثراء الحرام وذلك من أجل المتابعة اليومية ومضى الوقت ثم كونت الحكومة آلية لمكافحة الفساد برئاسة الطيب أبو قناية في يونيو من ذات العام 2012، ثم سرعان ما حُلت بعد أشهر قليلة من قيامها، ثم أجيز في العام 2016 قانون مفوضية مكافحة الفساد واستُحدثت مادتان لحماية المبلغين والشهود والخبراء وأقاربهم، ولكن لا تزال المفوضية قانوناً فقط، حيث لم تستكمل إجراءات إنشائها بعد حتى افتتاح محكمة مكافحة الفساد وجرائم المال العام التابعة لجهاز الأمن والمخابرات الوطني.

لا يجوز

يقول عضو مجمع الفقه الإسلامي الشيخ جلال الدين المراد إن أكل أموال الآخرين بالباطل يعتبر خيانة أمانة، ويستوجب إعادة المال بأكمله ولا يحق لجهة عمل تسوية فيه فهو مال عام، ويمكن أن تكون هناك نظرية تتبعها الجهات المعنية بقبول التسوية وهي (المال تلتو ولا كتلتو) وجدد المراد سؤاله من الذي ينوب عن الشعب في المسامحة، ولا ننس قوله تعالى (فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ .. وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ ) ورسالتي لمن يأكلون أموال الناس بالباطل من الأفضل إرجاعها حتى لا يأخذها الشعب يوم القيامة حسنات، وبالتالي يرشح نفسه للنار، وعن إرجاع ما انتفع به وما دخل من أرباح وفوائد يضيف عضو المجمع يرجع ما استولى عليه فقط والباقي يتصدق حتى يطيب خاطره ويدعو الله أن يغفر له.

تدجين للفساد

الباحثة الاجتماعية ثريا إبراهيم قالت إن إجراء تسويات مع من يأخذون الأموال دون وجه حق يشجع ويحفز البقية على سلك ذات الطريق، وينمي الحقد والحسد داخل آخرين باعتبار انهم فلتوا من العقاب رغم فداحة ما ارتكبوه، وبالطبع هناك قانون مجتمعي أقوى من كافة القوانين وتطبيقه من قبل المجتمع يشترط وعيه وإدراكه بما يحيط به، وعدم مساءلة المفسدين أو آكلي أموال الآخرين له مردود أكبر وأكثر تأثيراً على البقية، وأضافت  لا يوجد شيي اسمه عفو في الحق العام بل يستوجب الأمر محاسبة المتورطين وإرساء قيم المحاسبة حتى لا تموت قيم أخرى تتمثل في استسهال الأمر وتدجين الفساد والتعامل معه دون أدنى تأنيب ضمير بجانب التعامل بأنانية، وعن الهالة التي صُنعت للقبض على القطط السمان تقول الباحثة إن بعض الجهات تسعى للكسب السياسي وفي لحظة تجد نفسها مواجهة بعدم الإيفاء بما قطعته مسبقاً مما يفقدها مصداقيتها عاجلاً أو آجلاً. ولا شك إذا لم نصل لمرحلة محاسبة أنفسنا سيكون هناك إهمال وعدم مبالاة بالالتزام والانصياع للقوانين، ورددت.. السلطة الرشيدة هي التي تسعى لكسب المجتمع وتوعيته حتى يكون معها في خندق واحد عند المنعطفات، وأشير إلى ضرورة حق التعبير و الشفافية ومن حق المجتمع معرفة أمواله بكافة تفاصيلها المنهوب منها والمسترجع وأين كان وفيم تم توجيهه وماذا حلّ بمن نهبوه، وإذا لم تكن هناك شفافية ستدفع المجتمع لمزيد من الفساد.

إفلات من العقوبة

يقول خبير قانون وضليع بمراحل التقاضي فضّل حجب اسمه  أن المشّرع جوّز لوزير العدل حفظ الإجراءات على أن يكون الحفظ من أجل الصالح العام وهنا الصلاحية للنائب العام ولكنها مقيدة وفي نطاق ضيق جداً ولا بد من ذكر السبب، ولفت إلى وصول القضايا للمحاكم من قبل النائب العام أي أن التسويات تتم خارج ساحات المحاكم، وبالنسبة للعقوبة لا بد من إرجاع المال كله وفق القانون وأن يحاسب المنتفع ولا عفو في الحق العام نهائياً حيث لا تعفو المحكمة عن العقوبة بغض النظر عن اكتمال التسوية من عدمها،وقد تصل العقوبة للإعدام حسب المال وذلك طبقاً للمادة 77، وبالطبع التسويات تتيح لمرتكب الجرم الإفلات من العقوبة، وهذا أشبه بالتحلل، وردّد المختص في هذه الحالات لا يحق للقضاء التدخل أو النظر في أية قضية دون أن تكون أمامه، ووضع حلولاً عدة أبرزها تشديد العقوبة حتى تحد من انتشار الظاهرة، بجانب تفعيل القوانين باعتبارها جزءًا من المعالجة هذا خلاف المراجعة الداخلية والمراجع القومي وتفعيل دوره وتخصيص وحدة حكومية للرقابة على المال العام، ولكن للأسف هناك مؤسسات تمنع دخوله رغم تسلحه بالقوانين والتشريعات التي تحق له الدخول والمراجعة، وطالب بإسناد دور له في أمر التسويات ومن الضروري التحري الجيد قبل إجراء التسوية وتقييم المنفعة غير المشروعة، وجدد تأكيده على عدم قبول التسويات في المحاكم فالمال العام حق ليس من سلطات المحكمة التصرف أو العفو أو اتخاذ أي إجراء خلاف العقوبة.

مخالف للشريعة

إذا كان المعني بالتسوية إرجاع المال مقابل العفو عن العقوبة التأديبية، وهذه  ليست تسوية فالقانون المتعلق بالحق العام سجنه وجوبي حتى لو تمت التسوية، بهذه العبارة بدأ وكيل نيابة فضّل حجب اسمه، مواصلاً ترك المفسد في الحق العام مخالف للشريعة الإسلامية فالمال ليس حق أحد بعينه ولا من حق شخص الإنابة عن آخرين، ولا يجوز التنازل عن المال والمحكمة لا تقبل بأي تفاوض حوله، وعن عدم تدخل جهة لإبطال التسوية يقول وكيل النيابة لا يوجد إلا المحامي العام، وتأسف على الجهة التي تبارك البلاغ ومن ثمّ ترجع بمباركة التسوية، وأرى أن ذلك الإجراء نسف كافة التحركات السابقة بإنشاء محكمة بأمر تأسيس معنية بقضايا الفساد والمال العام.

مصالح مشتركة

انتقد المحامي والقيادي بالاتحادي الأصل الطيب العباسي تبعية المحكمة للجهات التنفيذية فالسلطات الأمنية أجهزة تنفيذية والفساد أكثره بالجهات التنفيذية فكيف يستقيم ذلك ولا بد من منح السلطات القضائية كامل الصلاحيات في أمر الفساد وقضايا المال العام بعيداً عن الأجهزة التنفيذية، وأعتقد أن الهالة الإعلامية التي صاحبت حملات الفساد أحدثت ضجة واستبشر الجميع بها خيراً للقضاء على المفسدين ولكن لجوءها للتسويات يشجع على التمادي في أكل المال العام وبالتالي راحت شعارات القطط السمان وغيرها (شمار في مرقة)، حيث دخلت العديد من الوساطات في آخر تسوية وتمت قبل وصولها لساحات القضاء، ويبدو أن أمر محاربة الفساد أخذت منحى آخر  وهي أشبه بالنزاع والصراع داخل الكيان الواحد خاصة وأن المضبوطين جميعهم بالأجهزة التنفيذية،  كما أن هناك مليارات المبالغ التي ضبطت لكن لم يتم الكشف عنها بوضوح وشفافية أو كيف خرجت و أين سيتم توظيفها؟، وأتساءل عن مدى إمكانية اتخاذ ذات المسلك إذا كانت القطط السمان من خارج الحزب الحاكم؟ بالطبع لا باعتبار أن التسوية تدور في فلك معين، ولا شك إنها مصالح مشتركة، وإدا لم يتم ردعهم سيتحولون لنمور سمان.

تجربة ناجعة

يقول رئيس منظمة الشفافية د. الطيب مختار إن الحق ينقسم لاثنين خاص وعام العام معلوم لدى الجميع والتسويات بالمال الخاص غير مقبولة فهي مدعاة للفساد، وقطعاً إن التقاضي أحياناً يطول وقد لا تصل المحكمة، وهناك تجربة قامت بها تونس مفادها مصادرة الأموال جميعها وتحويلها للتنمية وفق مرسوم صادر من السلطات، واقتداؤنا بها فيه ميزات كثيرة، فهي ستردع الكثيرين خوفاً من مصادرة ممتلكاتهم، ودعا مختار إلى إنشاء مفوضية مكافحة الفساد حتى لا تكون هناك ثغرة يهرب بها المفسدون.

مشكلة تنفيذ

أستاذ القانون الدستوري والمدعي العام الأسبق بروفيسور يس عمر قال إن المادة 58 من قانون الإجراءات المدنية منحت النائب العام صلاحيات العفو وسحب الملف من المحكمة وغيرها من الصلاحيات وقطعاً ليست مطلقة، أما التسويات متعارف عليها منذ أمد بعيد وبعد الانتفاضة أجريت عدة تسويات وأود أن أشير إلى اختلاف المفاهيم هنا فالثابت القانون والبينات يمكن أن تُغير من مجرى المحاكمة إدا لم تكن البينات كافية، بالإضافة إلى أخذ وقت طويل في بعض الأحيان، وبالطبع التسوية تتم للمصلحة العامة ومن الضروري إدخال جهات عليا بينها المراجع العام وأخرى اقتصادية حتى لا يقع ضرر على الدولة، وعن الحاجة لقوانين وتشريعات يقول البروفيسور إن القوانين الموجودة في الدستور كافية جدا ابتداءً من الثراء الحرام ومحكمة المال العام وغيرها بل فقط نحتاج إلى تطبيق أمثل بجانب الحرص على سحب أي ملف بوجود لجنة، بالإضافة لإعمال مبدأ المحاسبة والمساءلة أمام المجلس الوطني فهو أعلى سلطة، وجدد تأكيده على أهمية استغلال المادة 58 بطريقة صحيحة حتى تتحقق المصلحة العامة.

(غطغطة وحماية)

أحيانا تتم التسويات حفاظاً على عدم ظهور أسماء وشخصيات في قضية الفساد، بهذه العبارة بدأ البرلماني صالح يحي برة حديثه مواصلاً والغرض منها غطغطة آخرين وحمايتهم وبالنسبة لقانون التحلل أو ما شابهه من التسويات غير دستوري وبه طعن ورغم ذلك معمول به والتسويات تمنح الضوء الأخضر للمفسدين لأنهم لا يخشون العقوبة ولا شك أن المحاربة تحتاج محاكمات علنية والإفصاح عن الأموال في كيفية الاستيلاء عليها وأين سيتم توجيهها ومن حق العامة معرفة تلك التفاصيل طالما أن المال يتبع لهم ويضيف بِرة إدا لم يتم تفعيل قانون مفوضية مكافحة الفساد المجاز من فبراير 2016 لن تكون هناك محاربة بالطريقة الصحيحة التي تجتث الفساد من جذوره فالمواد التي يحويها بها سبل حماية كافية للشهود والمبلغين وطالب النائب البرلماني بعدم التهاون في التعامل مع المعتدين على المال.

تحقيق: معاوية عبد الرازق

الخرطوم: (صحيفة الأخبار)

 

 

اضغط هنا للانضمام لقروبات كوش نيوز على واتساب

قروبات كوش نيوز الإضافية



زر الذهاب إلى الأعلى