براءات الذكاء الاصطناعي.. الصين تقود والعرب يتأملون

يشهد عصرنا الحالي تحولاً جوهرياً في خريطة الابتكار العالمي، حيث أصبح الذكاء الاصطناعي محوراً أساسياً للتنافس التكنولوجي بين الدول. وتُظهر إحصائيات المنظمة العالمية للملكية الفكرية (WIPO) تفاوتاً صارخاً في هذا المجال، تتصدره الصين بلا منازع بينما يكاد يكون الحضور العربي شبه معدوم. فبين عامي 2014 و2023، نجحت الصين في حصد 38 ألف براءة اختراع في هذا الحقل المتقدم، متقدمةً على الولايات المتحدة بفارق هائل يعكس عمق الاستراتيجية الصينية وضخامة الاستثمارات الموجهة لهذا القطاع الحيوي.
الهيمنة الصينية لم تكن وليدة الصدفة، بل ثمرة رؤية استباقية جعلت من الذكاء الاصطناعي أولوية وطنية، مدعومة بتمويل ضخم وتخطيط طويل الأمد. في المقابل، يكشف غياب أي دولة عربية عن قائمة الدول الرائدة عن أزمة هيكلية في منظومة الابتكار العربية، تتراوح بين ضعف الاستثمار في البحث العلمي وغياب الرؤية الاستراتيجية الموحدة لهذا القطاع الذي يُعد عصب الاقتصادات المستقبلية.
في الجانب الآخر من المعادلة، نجد العالم العربي الذي يبدو غائباً تماماً عن هذا السباق المحموم. فبينما تشق دول مثل الهند وكوريا الجنوبية طريقهما بقوة في مجال الابتكار التكنولوجي، تتراجع الدول العربية إلى موقع المتلقي السلبي للتكنولوجيا. هذه الهوة الكبيرة ليست مجرد تأخر تقني عابر، بل تعكس أزمة هيكلية عميقة في منظومة البحث العلمي والابتكار في العالم العربي؛ فمعدلات الإنفاق على البحث والتطوير لا تتجاوز 0.3% من الناتج المحلي في أفضل الأحوال، وهي نسبة ضئيلة مقارنة بما تنفقه الدول الرائدة. كما أن ظاهرة هجرة العقول العربية المتميزة إلى مراكز البحث العالمية تزيد من تعميق هذه الفجوة، حيث يفقد العالم العربي سنوياً عشرات الآلاف من الكفاءات العلمية التي كان يمكن أن تشكل نواة لنهضة تكنولوجية حقيقية.
ينذر الوضع الحالي بمخاطر جسيمة تتجاوز الجانب التقني لتمس الأبعاد الاستراتيجية للأمن القومي العربي. ففي عالم أصبحت فيه البيانات هي النفط الجديد، والذكاء الاصطناعي هو أداة الهيمنة الجديدة، فإن الاعتماد الكامل على حلول وتقنيات أجنبية يعني في الواقع تفويض السيادة الرقمية للآخرين. وتظهر هذه الحقيقة جلياً في القطاعات الحيوية مثل الصحة والتعليم والخدمات المالية، حيث تعتمد معظم الدول العربية على أنظمة مستوردة، دون وجود قدرة محلية على تطوير بدائل وطنية أو حتى تعديل هذه الأنظمة بما يتناسب مع الخصوصيات المحلية.
لكن رغم قتامة الصورة، فإن الفرص المتاحة للعالم العربي لا تزال قائمة. فالدول العربية تمتلك مقومات مهمة يمكن البناء عليها، بدءاً من الكفاءات البشرية التي أثبتت جدارتها عندما توفرت لها البيئة المناسبة، ومروراً بـ الموارد المالية الكافية التي يمكن توجيهها نحو الاستثمار في التقنية، ووصولاً إلى سوق عربية موحدة تشكل حافزاً جاذباً للاستثمارات التكنولوجية.
في السنوات الأخيرة، بدأت بوادر تحول استراتيجي في التعامل مع تحديات الذكاء الاصطناعي تظهر في بعض الدول العربية، وخاصة الخليجية منها. فالمملكة العربية السعودية أطلقت استراتيجيتها الوطنية للبيانات والذكاء الاصطناعي التي تهدف إلى بناء اقتصاد رقمي قائم على المعرفة، بينما تسعى الإمارات العربية المتحدة لأن تتحول إلى مركز عالمي رائد في هذا المجال بحلول 2031 من خلال استثمارات ضخمة في البنية التحتية الرقمية وتشجيع الابتكار. أما قطر فقد ركزت على تطوير قدرات بحثية متقدمة في الذكاء الاصطناعي من خلال مؤسسات مثل المؤسسة القطرية لدعم الابتكار والبحث العلمي ومركز قطر للابتكارات التكنولوجية وتقدم استراتيجية قطر للبحوث والتطوير والابتكار 2030 رؤية جريئة وطموحة تعمل على إحداث تغيير شامل في منظومة البحث والتطوير والابتكار وغيرها.. هذه المبادرات الطموحة تعكس إدراكاً متزايداً لأهمية الذكاء الاصطناعي في تشكيل المستقبل وصحيح أن هذه البدايات تمثل خطوة إيجابية في مسار التحول الرقمي العربي، إلا أنها تظل غير كافية لسد الفجوة التكنولوجية مع الدول الرائدة. فالتجارب الدولية الناجحة تثبت أن التقدم في مجال بهذه التعقيدات والاستثمارات الضخمة يتطلب تعاوناً إقليمياً وتكاملاً في الموارد والجهود. ولعل أهم ما يعيق هذه المساعي هو غياب الإطار المؤسسي العربي الفعال الذي يمكنه تحويل هذه الجهود الوطنية المبعثرة إلى مشروع تقني عربي مشترك.
المطلوب اليوم هو نهج عربي متكامل يبدأ بإصلاح جذري لمنظومة التعليم والبحث العلمي، ويركز على بناء شراكات حقيقية بين القطاعين العام والخاص، مع العمل على استقطاب الكفاءات العربية المهاجرة وتوفير البيئة المحفزة لها. كما أن التعاون العربي المشترك في هذا المجال يمكن أن يشكل قوة دفع كبيرة، من خلال إنشاء مراكز بحثية عربية مشتركة، وتبادل الخبرات، وتوحيد الجهود، وبناء منصات مفتوحة المصدر تُعزز الاستقلالية الرقمية العربية.
تُعلّمنا التجربة الصينية أن النجاح في مجال الذكاء الاصطناعي لا يتطلّب قرنًا كاملًا من التراكمات التكنولوجية، بل إرادة سياسية حقيقية واستثمارًا استراتيجيًا ذكيًا وموجّهًا. لقد استطاعت الصين، في فترة زمنية قصيرة نسبيًا، أن تنتقل من موقع المتلقّي للتكنولوجيا إلى موقع المنافس، بل والمبادر في مجالات حسّاسة كبراءات الاختراع المرتبطة بالذكاء الاصطناعي التوليدي (وهذا الأخير هو فرع من الذكاء الاصطناعي يُركّز على إنتاج محتوى جديد وابتكاري مثل النصوص أو الصور أو الأصوات، اعتمادًا على بيانات سابقة وأنماط تعلمها). إنّ هذه التجربة تطرح تساؤلات جوهرية أمام الدول النامية والعربية خصوصًا: هل يمكن تجاوز الفجوة الرقمية من خلال تبنّي سياسات وطنية جريئة؟ وهل يمكن استثمار الذكاء الاصطناعي لا فقط كأداة تقنية، بل كرافعة سيادية تُعزّز من الاستقلال العلمي والتكنولوجي؟ الواقع الصيني يُشير إلى أن الإجابة ممكنة، وأن التحوّل الرقمي ليس حكرًا على من بدأوا السباق أولاً، بل على من يُحسنون قراءته واتخاذ القرارات في لحظته المناسبة…فهل نحن فاعلون؟
د. خالد وليد محمود – الشرق القطرية