آراء

كلماتك بعد مائة عام!

تخيّل أن كلماتك ستُقرأ بعد مائة عام. أن يُقلّب أحدهم صفحاتك كما يُقلّب الذكريات، ليبحث بين السطور عنك، لا عن زمانك، وعن صوتك لا صدى الآخرين فيك.

تخيّل أن الكتابة لم تكن لحظتك أنت، بل اللحظة التي تسبق ميلاد قارئٍ لن تراه، فماذا ستكتب؟ وكيف ستُكتب؟
الكتابة ليست تمرينًا لغويًّا ولا استعراضًا لأدواتك البلاغية، إنها رسالة تُرمى في بحر الزمن، لا تدري على أيّ شاطئ ستُلفظ، ولا من سيمسك بها بعدك. لهذا. لا تكتب ليُقال: «يا له من أسلوب»، بل ليُقال: «يا لها من روح»، أو «من هذا؟ أشعر أنني أعرفه، رغم أن بيننا قرنًا من النسيان».

وفي زمن يتهافت فيه كثيرون على نسخ الآخرين، وعلى تكرار النغمة نفسها بحروف مختلفة، والانبهار بما يُرضي السوق لا النفس، تصبح الكتابة التي تشبه صاحبها عملة نادرة. لكن الكاتب الحقيقي لا يختبئ خلف الظلال، بل يصنع ضوءه الخاص، حتى لو كان باهتًا أول الأمر، لأنه مع الوقت، يُصبح الضوء صوتًا، ويُصبح الصوت أثرًا، ويُصبح الأثر حياةً ثانية.

حين تكتب، اسأل نفسك؛ هل ما أقوله الآن نابع من صدري، أم من تراث محفوظ؟ هل هذه الكلمات تشبهني، أم تشبه الكتب التي قرأتها؟ لا عيب أن تتأثر، ولكن العيب أن تُصبح نسخة بلا ملامح. اجعل لحروفك ملامحك، حتى لو لم تكن الأجمل، حتى لو كانت مليئةً بالشوائب. فالنقاء لا يصنع دائمًا الصدق، وأحيانًا العيوب هي ما يُحبّبنا في الأشياء. نحن لا نحبّ اللوحات المتقنة دائمًا، بل تلك التي تُحدث فينا رعشة، التي تجعلنا نتوقف، نتأمّل، نقول: «هناك شيء هنا… شيء لا يُرى، لكن يُحَسّ».

والكتابة التي تُشبه صاحبها، لا تُهرَم. لأنها لا تنتمي فقط إلى سياقها الزمني، بل تنتمي إلى تجربة إنسانية أوسع، وإلى الصدق، وهذا ما يبقى. فقد تتغير الأذواق، وقد تتبدل المدارس، لكن شيئًا واحدًا لا يُغيّره الزمن؛ الشعور بالصدق. فحين تقرأ رسالة كتبها عاشقٌ قبل مائة عام، وتشعر أن قلبك يخفق معها، فاعلم أن ما كتبه كان يشبهه حقًّا. لم يُحاول أن يُقنعك، بل فقط قال ما يشعر به، وها أنت تشعر به أيضًا.
وهنا يكمن السرّ؛ اكتب لتُشبه نفسك، لا لتُرضي غيرك. لا تُشبه كاتبًا تحبّه، ولا مدرسةً تُعجبك، ولا زمنًا تتمنى أن تنتمي إليه.

اكتب لأنك لا تعرف طريقة أخرى للنجاة. لأنك تريد أن تترك أثرًا، لا أثر أحدهم، ولا تحتمل فكرة أن تمرّ في هذا العالم، وتغيب من دون أن تترك وراءك شيئًا يقول: “كنت هنا، هذا أنا، وهذا حُبّي، وهذا حزني، وهذا ضحكي، وهذه أسئلتي التي لم أجد لها إجابة».

إن الكتابة الحقيقية لا تخاف من الفقد، بل تُراهن عليه. تعرف أن الزمن سيمحو كثيرًا، لكنها تؤمن أن ما كُتب بصدق لا يُمحى بسهولة. تُراهن على أن الحروف حين تنبض بالروح، تصير أكثر بقاءً من الجسد.

لذا، لا تكتب كمن يخشى النسيان، بل كمن يعرف أنه لن يُنسى طالما أن أثره صادق.

اجعل من حبرك امتدادًا لنبضك، لا لبصمتك فقط. لا توقّع باسمك، بل بروحك.

اكتب كما لو أن الكتابة طوق نجاةٍ من الزيف، وكأنها الطريقة الوحيدة لتقول لمن سيأتي بعدك؛ «أنا لم أكن شبحًا، كنت إنسانًا… وهذا دليلي».

ربما لن تقرأك الملايين، وربما لن تُدرَس نصوصك في الجامعات، لكنك ستكون قد كتبت ما يُشبهك، وهذا وحده يكفي، لأنك عندها لن تكون مجرد صوت مرّ في الزحام، بل نفسًا، روحًا، شعورًا يُحسّه من سيأتي بعدك، حتى لو لم يعرف اسمك.

اكتب، لا لتعيش في الكتب، بل لتعيش في من سيقرؤك.

سعيدة مفرح – الشرق القطرية

اضغط هنا للانضمام لقروبات كوش نيوز على واتساب

قروبات كوش نيوز الإضافية



اسماء عثمان

محررة مسؤولة عن تغطية الأحداث الاجتماعية والثقافية، ، تغطي القضايا الاجتماعية والتعليمية مع اهتمام خاص بقضايا الأطفال والشباب.
زر الذهاب إلى الأعلى