الدول المثقوبة !
في الجغرافيا السياسية، نجد أن الدولة المثقوبة هي تلك التي لها كيان مستقل لكنها محاطة من دولة أخرى من جميع الجهات. أبرز مثال هي دولة الفاتيكان التي تقع داخل الجمهورية الإيطالية. وموضوعنا بالطبع ليس عن الفاتيكان وغيرها من الدول المثقوبة، بحسب المصطلح الجغرافي، وإنما استخدمنا هذا المصطلح الجغرافي للحديث حول دول مثقوبة فعلياً، ولكن وفق مفاهيم ورؤى أمنية، سياسية، ثقافية وغيرها.
وفي السطور التالية مزيد تفصيلات.
• حين يغادر مستعمر أو محتل، بلدة ما تحت غطاء الانسحاب ومنح البلد حريته واستقلاله، فإنه لا يقوم بذلك إلا بعد أن يكون قد زرع عملاءه بأشكال مختلفة، وبالتالي هذه البلدة المستقلة لا يمكن أن تطلق عليها اسم دولة مستقلة ذات سيادة، لأنها دولة مثقوبة، والثقب ها هنا يكمن في العملاء المزروعين من قبل المستعمر أو المحتل السابق، والذين سيبدأ دورهم بعد قليل، يكملون دور المحتل بطرائق شتى، مع بقاء كامل الولاء والطاعة له، وإن كان خفياً مستترا.
• حين يأتي للبلد نظام حكم ما، عبر انقلاب عسكري أو انتخابات مزورة، وتكون كلتا الآليتين مدعومتين من نظام خارجي غالب ونافذ، فاعلم أن هذه الدولة مثقوبة أيضاً، لأن النظام الحاكم الجديد سيُدار من الخارج، وسيأتمر بأوامر الداعم الخفي. حيث سيبدأ النظام يأمر وينهى وينفذ، ولكن بحسب توجهات ومصالح الداعم.
• حين يتغلغل عملاء وجواسيس نظام خارجي داخل أروقة وأنظمة ومؤسسات دولة ما، فاعلم كذلك أن هذه الدولة مثقوبة. ذلك أن العامل الرئيسي المهم لأي دولة كي تكون مستقرة راسخة، هو الأمن الداخلي، الذي يكون مستباحاً أمام أولئك العملاء أو الجواسيس، على اختلاف صورهم وأشكالهم، وتكون بالتالي كل خطوة أو حركة أو قرار أو توجه ما بالداخل، عبارة عن عمليات مكشوفة للجهة التي يعمل الجواسيس لصالحها.
• حين تخضع بلدة ما لحماية من قوة خارجية، لاسيما إن كانت قوى عظمى، فاعلم أن تلك البلدة طالبة الحماية، في طريقها لأن تُثقب بعد قليل وتنضم لقائمة الدول المثقوبة، لأن الحامي الخارجي غالباً لن يعرض قوته وقواته للخطر دون مقابل، وبالطبع لن يكون المقابل المادي متوافقاً في القيمة مع فعل الحماية وقت الخطر، بل تجد أن الحامي الخارجي يطلب ما يوازي خدمات الحماية، مثل الاستثمار في البلد بمزايا خاصة، أو حق الإشراف على مشروعات معينة، أو التدخل في صناعة توجهات ورؤى البلد، أو التأثير في قرارات «سيادية» من تلك التي للحامي الخارجي علاقة بها من قريب أو بعيد، أو غيرها من أجور الحماية على أشكال وصور مختلفة.
نعيش عالماً مثقوباً
إن نظرة سريعة حول العالم، ستجد غالبية الدول «المستقلة» والمنضوية تحت راية الأمم المتحدة، دولا يمكن اعتبارها مثقوبة، لكنها تتفاوت في سعة الثقب! فأينما وجهت وجهتك، شمالاً أم جنوباً، شرقاً أم غرباً، ستجد دولاً مثقوبة عبر أدوات ووسائل وطرق مختلفة، وقلما تجد دولاً ذات سيادة حقيقية في عالم اليوم، فلا تغرّنك أحجام وقوة الدول حين نتحدث في هذا الموضوع.
الدول المثقوبة ليس شرطاً أن تكون صغيرة أو ضعيفة، بل الثقوب يمكن أن تحدث لدول عظمى أيضاً، لكن الفرق يكمن في كيفية التعامل مع الثقوب، وحجم التأثر بما يفرز وينتج عن تلك الثقوب. لا تجد دولة اليوم تخلو ساحاتها ومؤسساتها وميادينها من عملاء وجواسيس دول أخرى. بل لا تجد رجالات وزعماء وقيادات دولة ما غير مخترقين بصورة وأخرى.
إن اختراق الدول والأفراد عبر وسائل متنوعة، صار أمراً سهلاً يسيراً في عالم الاتصال والتقنية الذي نعيشه الآن، فإن لم يكن الاختراق بالتقنية وأدواتها، فلا شك سيكون عبر البشر أنفسهم. إذ من الممكن أن يحدث الاختراق عبر صديق أو زميل عمل أو تاجر أو عامل أو غيرهم كثير.
الكل يحاول أن يبدع ويتفنن في عالم التجسس والاختراق، سواء على مستوى الأفراد أم الشركات التجارية أم المؤسسات الأممية، وصولاً إلى الدول. صار الاختراق فنا ومهارة ومكسبا للجهة المخترِقة (بكسر الراء) وخسائر فادحة للجهة المختَرقة (بفتح الراء).
من هنا ترى ظهور تخصصات جديدة في الدراسات الجامعية من قبيل الأمن السيبراني، أو هندسته، أو إدارته، أو غيرها من تخصصات مرتبطة بهذا المجال، بالإضافة إلى بروز الحاجة في الإدارات الأمنية لإنشاء أقسام خاصة بالأمن السيبراني، تكون مهمة تلك الأقسام أو الأجهزة، العمل المستمر المتقن في إنشاء التحصينات والجدر المانعة للاختراقات التقنية، فيما تستمر وتتولى بطبيعة الحال، الأجهزة الأمنية التقليدية المعروفة في متابعة الاختراقات البشرية، أو الجواسيس والعملاء، إن صح التعبير.
الصهيونية وصناعة الثقوب
الكيان الصهيوني منذ أن ظهر على الخارطة، وهو يعتمد على الغير في تحقيق رغباته ومطامعه، سواء كان هذا الغير على شكل مساندين داعمين أم عملاء وخونة مارقين. بل لا أشك لحظة في أن هذا الكيان نجح في صناعة طابور خامس في غالبية الدول التي يعتقد هذا الكيان وداعموه، أن الخطر قد يصدر عنها، وبالتالي أزعم أن غالبية الدول المحيطة بالكيان وربما أبعد من ذلك أيضا، تغص بآلاف العملاء، سواء صهاينة أم من أبناء تلك البلدان!.
وفي السياق هذا، ربما أول ما يتبادر إلى الذهن ونحن نشهد أحداثاً متسارعة بالمنطقة، ما جرى لحزب الله اللبناني وقياداته، وقبلهم إيران ورموزها ومؤسساتها، من اختراقات صهيونية للطرفين وبالجملة، حتى أمست نتائجها كارثية، ولا حاجة لإعادة الحديث عنها وشرحها.
تاريخياً نجد أن الحوادث الكبيرة مثل سقوط المدن والعواصم والحواضر المهمة، سببها الرئيسي الخيانات الداخلية، والتي كانت من الأسباب الرئيسية للسقوط، وحوادث التاريخ من هذا النوع أكثر من أن نحصرها ها هنا، لكن الإشارة إلى بعضها مفيد، وخاصة أننا نعيش ظروفاً مشابهة لظروف تاريخية ماضية، ولعل أبرز الأمثلة هو سقوط بغداد قديماً، حين كانت عاصمة للعباسيين، أعظم حواضر العالم حينذاك. كان سقوطاً كارثياً مروعاً، بل يعتبر من أبرز الأمثلة على دور الطابور الخامس.
صار يُقترن سقوط أهم حاضرة إسلامية في ذلك الوقت بالوزير ابن العلقمي، الذي خان الخليفة وهيأ الأجواء لدخول المغول الهمج، وما جرى بعد ذلك من إهلاك للحرث والنسل، في كارثة لا ينساها التاريخ. ولعل الظروف السياسية الحالية في غالبية المنطقة العربية مهيأة لكثير من الطوابير الخامسة أن تخرج من أوكارها، لتعيث مع الخارج فساداً وتدميراً.
لكن مع كل ذلك، كخاتمة لهذا الحديث، لا يعني انتشار العملاء وكثرة الاختراقات، الاستسلام وتسرب اليأس إلى النفوس. لا، ليس هذا هو المطلوب. فكلما كان الحذر وكانت الحيطة والفطنة، تم تأجيل ظهور الفساد والمفسدين، وذلك الأمر يتطلب، بالإضافة إلى الحذر والحيطة والفطنة، عملاً أمنياً علمياً دقيقاً، إلى جانب توعية مجتمعية مستمرة، مع ترسيخ معاني الولاء لله والرسول والدين ومن ثم الوطن. فتلك هي عوامل الثبات لأي مجتمع من الاختراقات ونشوء الطوابير الخامسة، أو ما شابهها في الكيفيات والأهداف. وما الوصية القرآنية (وخذوا حذركم) إلا دعوة لا يجب أن نغفل عنها، أو من يحذرنا القرآن منهم،
وما أكثرهم حولنا!.
د. عبدالله العمادي – الشرق القطرية