شهرة الأرض.. وشهرة السّماء
من سنن الله الماضية أن يُبتلى كلّ عبد في هذه الدّنيا بالشرّ والخير فتنة، ويمتحن بقرين أقسم على إضلاله، وبنفس تحبّ العاجلة وتنسى الآخرة، تميل إلى الراحة وتهوى الشّهوات، تؤْثر النّوم على الصّلوات والرّاحة على العمل والطّاعات؛ همّها أن تنال كلّ حظوظها من هذه الدنيا الفانية وتستكثر من متعها.. تحبّ العلوّ وتستهويها الشّهرة.. وحبّ الشّهرة هو أحد الأمراض المهلكة التي تردي النّفس، ومتى ما أصبح غاية وغرضا لها هوت بصاحبها إلى ما فيه هلاكه في الآخرة، لأنّ الدّار الآخرة قال عنها خالقها سبحانه: ((تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لاَ يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلاَ فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِين)). الدّار الآخرة ليست لمن يريد العلوّ في الأرض ولمن يلهث خلف الشّهرة ولا همّ له إلا أن يحظى بإعجاب النّاس من حوله ويتكلّموا عنه ويشيروا إليه بالبنان، ويتصدّر المجالس ويُهتمّ برأيه وبما يقول ويفعل، بل إنّ الله -جلّ وعلا- يكافئ طالب الشّهرة واللاهث خلفها بضدّ ما كان يطلبه في الدّنيا، فيحشر ذليلا مهينا، يقول المصطفى -عليه الصّلاة والسّلام-: “من لبس ثوب شهرة ألبسه الله يوم القيامة ثوب مذلّة”. حبّ الشّهرة وطلبها والحرص عليها في الدّنيا وعلى ظهر هذه الأرض مذموم، وقد يقود صاحبه إلى الهلاك والرّدى، لكنّ هناك شهرة ينبغي لكلّ عبد مؤمن أن يهتمّ بها ويطلبها، ويسعى ليظفر ويحظى بها، شهرة أنساناها الشّيطان إلا من رحم الله منّا، وخبا ذكرها بين النّاس وأصبح لا يتحدّث عنها إلا قلّة قليلة من عباد الله.. إنّها الشهرة في السّماء.. الشّهرة في الملأ الأعلى عند الله وبين ملائكته المقرّبين.. شهرة ترفع صاحبها بين عباد الله المؤمنين فتحبّه القلوب وتخفق له الأرواح، وترفعه بين أهل السّماء فلا يذكر إلا بجميل الذكر بينهم.
أصحاب هذه الشّهرة –أي الشّهرة في السّماء- ربّما لا يعرفهم ولا يتحدّث عنهم ولا يهتمّ بهم أكثر النّاس، ولكنّهم مشهورون في الملأ الأعلى عند الله وبين ملائكته؛ فكم من مشهورٍ في الأرض مجهول في السماء، وكم من مجهولٍ في الأرض معروف في السماء. شهرة السّماء يحظى صاحبها بالقرب والرّضا والذّكر عند الله، فيعيش دنياه مرتاح البال قرير العين هانيها، يجعل الله لك من ضيق فرجا ومن كلّ همّ مخرجا ويرزقه من حيث لا يحتسب.. كلامه مسموع، ودعاؤه مجاب، وأمله مُنال، ما أن يرفع يديه إلى السّماء ويدعو ربّه، حتى تقول الملائكة: صوت معروف من عبد معروف.
تأمّل وتفكّر وتدبّر أخي المؤمن، ما أروع أن تقول الملائكة عن صوتك في الملأ الأعلى إنّه صوت معروف وتقول عنك إنّك عبد معروف، في الوقت الذي لا يكاد يعرفك فيه سوى قلة من أقاربك وجيرانك.. ربّما لا يكون بين أهل الأرض ممّن هم حولك من يسمع صوتك ويهتمّ برأيك، لكنّ أهل السّماء يسمعون صوتك ويهتمّون بدعائك وندائك ورجائك.
الموازين والمعايير في السّماء ليست هي دومًا موازين ومعايير الأرض؛ قد يكون أهل الأرض يهتمّون بك ويجلّونك ويقدّمونك ولكنّك بين أهل السّماء لا تساوي شيئا.. ربّما تمتلئ نفسك كبرا وتظنّ أنّك تملأ ما بين الخافقين وأنت عند الله لا تساوي جناح بعوضة، وربّما تظنّ أنّك خير وأفضل من جميع من هم حولك وتمرّ بالرّجل الفقير بسيارتك فيستوقفك فلا تتوقّف عنده وتزدريه، لكنّه عند الله خير من ملء الأرض من أمثالك.. وفي المقابل، ربّما تكون متواضع الحال عِلما ومالا ومنصبا، وربّما تكون فقيرا معدما، وتشعر بأنّ النّاس من حولك معرضون عنك لا يأبهون بك، لكنّك عظيم عند الله، يقول النبيّ -صلّى الله عليه وآله وسلّم-: “رُبَّ أشعث أغبر مدفوع بالأبواب، لو أقسم على الله لأبرَّه”. ما هو مسطّر لك في أذهان النّاس ويجري على ألسنتهم عنك، قد يسطّر لك عكسه في الصّحيفة وفي الميزان عند الله، وقد يقال عنك ضدّه بين الملائكة المقرّبين؛ فأنت الذي في الأرض قد لا تكون أنت الذي في السّماء.
ماتت عجوز على عهد رسول الله –صلـى الله عليه وسلم- كانت تَقُمُّ المسجد أي تنظفه وتطيّبه، ما كان أكثر المسلمين يعرفونها أو يعرفون اسمها، لكن لعلّها كانت صاحبة شأن بين أهل السّماء؛ ماتت فصلّى عليها النّاس ودفنوها ولم يُؤْذِنُوا بها النبيَّ صلى الله عليه وسلم، فلمّا علم بوفاتها بعد أيام عتب أصحابه وقال لهم: “أفلا آذنتموني”، ثمّ ذهب إلى قبرها فصلى عليها.. أيّ مكانة هذه التي حازتها تلك المرأة في السّماء حتّى يؤمر خاتم الأنبياء بأن ينطلق إلى قبرها ليصلّي عليها ويجزل لها الدّعاء! ما ضرّها أنّ أصحاب السير اختلفوا في اسمها، ما دامت قد كانت معروفة في السّماء بصوتها وعملها. إذا كانت الشّهرة في الأرض وخاصّة بين أهل هذا الزّمان تنال بتقلّد المناصب وكنز الأموال، وتنال بالأضواء الإعلامية وبالغناء والتّمثيل وحشو مواقع التواصل بالغثاء، وبإتقان لعب كرة القدم، فإنّها تنال في السّماء بأسباب أخرى، أهمّها كثرة ذكر الله تعالى، يقول الحقّ جلّ وعلا كما في الحديث القدسي: “أنا عند ظن عبدي بي، وأنا معه إذا ذكرني، فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، وإن ذكرني في ملإ ذكرته في ملإ خير منهم”.. يا له من فضل عميم ومقام عظيم!.. الله جلّ في عليائه يذكر عبده في ملأ عظيم جليل من الملائكة.. أ تريد أن تبلغ هذا المقام يا عبد الله؟ فقط حرّكْ لسانك بحضور قلبٍ ذاكراً مولاك ثم استحضر أنّه –سبحانه- في تلك اللحظة يذكرك ويباهي بك الملائكة.. عندها ستشاركك دموعُ قلبك فرحتك.
تفكّر معي أخي المؤمن كم من السّاعات نضيّع في القيل والقال، وربّما في النّميمة، لو ملأناها بذكر الله لحظينا بالشّهرةِ في السماء؛ أوقات كثيرة تضيع على الواحد منّا في تنقّله بسيارته في زحمة الطّرق، أو الانتظار في المصالح الإدارية وفي المستشفيات والعيادات، لو استثمرناها بتحميدٍ أو تهليلٍ أو تلاوةٍ للقرآن لكنا مشاهيرَ في السماء.
من أسباب الشّهرة في السّماء، أيضا، أن يكون العبد المؤمن حريصا على حضور مجالس الذّكر والصّبر فيها، يقول النبيّ عليه الصّلاة والسّلام: “مَا اجْتَمَعَ قَوْمٌ فِي بَيْتٍ مِنْ بُيُوتِ اللَّهِ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَيَتَدَارَسُونَهُ بَيْنَهُمْ إِلاَّ نَزَلَتْ عَلَيْهِمُ السَّكِينَةُ وَغَشِيَتْهُمُ الرَّحْمَةُ وَحَفَّتْهُمُ الْمَلَائِكَةُ وَذَكَرَهُمُ اللَّهُ فِيمَنْ عِنْدَهُ”.. ما أعلاه وأجزله وأروعه من فضل لو كنّا نسمع مثل هذه الأحاديث بقلوبنا مع أسماعنا!.. هذا الحديث معناه أنّك أخي المؤمن متى ما جلست في مجلس درس في المسجد أو في أيّ مجلس أيا كان مكانه، المهمّ أن يذكر فيه الله، وتحتسب الأجر والصّبر عند الله بحضورك، فإنّ الله –جلّ وعلا- يذكرك باسمك ويباهي بك ملائكته. تأمّل أخي حال عبد من عباد الله الذين عقلوا معنى أن يذكرهم الله بأسمائهم، هذا أبو ذرّ -رضـي الله عنه-، ذلك الصّحابيّ الزّاهد الذي عاش فقيرا ومات وحيدا فقيرا. قال له النبيُّ –صلّى الله عليه وسلّم- يوما: “إنَّ اللهَ أمَرَني أن أقرَأَ عليك: (لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا)”، فقال أبو ذرّ: وسمَّاني الله؟ (أي خصني بالاسم) قال: “نعمْ”، فبَكى أبو ذرّ –رضـي الله عنه-.
مشاهير كثر في تاريخ البشرية لمّا ماتوا مات ذكرهم معهم، ومشاهير آخرون لم يكونوا يهتمّون بالشّهرة بين أهل الأرض وإنّما أتتهم الشّهرة من الله حين فتح لهم القلوب وأعلى مقامهم وذكرهم، كانوا مشهورين في السّماء، وظلّوا من المشاهير إلى يوم النّاس هذا، وسيظلّون كذلك –بإذن الله- إلى أن تقوم السّاعة.. اشتهروا في الأرض بعلمهم وإخلاصهم وطيّب أعمالهم، واشتهروا في السّماء بذلك نحسبهم كذلك.. وقبل هؤلاء المشاهير وبعدهم، عبادٌ لله لم يشتهروا بين أهل الأرض ولكنّهم اشتهروا في السّماء؛ كانوا السّبب بعد الله في شهرة غيرهم.
نحن جميعا نعرف راوية الإسلام أبا هريرة –رضـي الله عنه-، لكنّ كثيرا منّا لا يعلمون أنّ حسناته كلّها ستأتي يوم القيامة في ميزان رجل لا يعرفه أكثر النّاس، إنّه الطفيل بن عمرو –رضـي الله عنه- الذي لما أسلم انطلق إلى قبيلته دوس فما جاء إلى النبي –عليه الصّلاة والسّلام- إلا وقد أسلمت قبيلته كلها وفيهم أبو هريرة.. كلّنا نعرف الخليفة الرّاشد عمر بن عبدالعزيز رحمه الله، ونحبّ الحديث عن مواقفه في العدل والتّواضع، لكنّ قليلا منّا يعرفون رجاء بن حيوة الذي أشار على النّاس بتولية عمر بن عبد العزيز، فكان سببا فيما لحق الأمّة بتوليته.. كلّنا نعرف الإمام مالك، إمام دار الهجرة، ولكنّ أكثرنا لا يعرف اسم أمّه التي كانت السّبب بعد الله في طلبه العلم، حين قالت له: اذهب إلى ربيعة فتعلم من أدبه قبل علمه.. كلّنا نعرف الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله، لكنّنا لا نعرف اسم المرأة التي كانت تأخذ بيده في ظلام اللّيل لتوصله إلى المسجد فيصلّي ويحضر حلقة العلم، إنّها أمه المرأة الصّالحة العظيمة.. كلّنا نعرف النّاصر صلاح الدّين الأيوبيّ رحمه الله، فاتح القدس، لكنّنا لا نعرف من علّمه ومن زرع فيه الغيرة للإسلام والمسلمين.. كلّنا نعرف ابن تيمية حق المعرفة، لكنّنا لا نعرف مَن علّمه القراءة والكتابة حتى صار أحد الأئمّة الأعلام.. كلّنا نستعذب قراءة عبد الباسط عبد الصّمد ومحمّد صدّيق المنشاوي، لكنّنا لا نعرف من وجّههما إلى حفظ وتلاوة القرآن، ولا نعلم من حفّظهما وعلّمهما التّرتيل. كثير هم أولئك الذين كانوا يعملون في الخفاء وكانوا السّبب بعد الله في الخير الذي عرفته الأمّة في مراحل تاريخها؛ لم يُعرفوا بين أهل الأرض، ولم تدوّن سيرهم في كتب السّير، لكن يكفيهم شرفا أنّ سيرهم مدوّنة في السّماء، وأنّهم معروفون في الملأ الأعلى.
وأنت أخي المؤمن.. لا تهتمّ بالشّهرة بين النّاس وفي هذه الدّنيا الفانية وعلى ظهر هذه الأرض.. اهتمّ بمقامك في الملأ الأعلى.. اهتمّ بما يقوله عنك الملائكة المقرّبون.. اهتمّ بما يقوله عنك ربّ العزّة جلّ وعلا.. جاهد نفسك على إخلاص أقوالك وأعمالك وأحوالك لله، واحرص على إخفاء ما يمكنك إخفاؤه منها.. اجعل بينك وبين الله أسرارا من الأعمال والأقوال والأحوال الصّالحة لا يطّلع عليها إلا الله.. لا تهتمّ بما يقوله عنك النّاس.. احرص على الإخلاص، وتأكّد من أنّ الله لن يضيّع عملك.. الدّنيا شأنها حقير والعمر قصير، لكنّه يطول بالنية الصّالحة الصّادقة.. ازرع الخير مهما رأيته هيّنا وقليلا، ولا تنتظر شكرا من أحد.. انتظر جزاءك من الله الأوحد.. ازرع الخير في زوجتك وأبنائك وفي أصدقائك وخلانك بكلماتك ومواقفك، وكن على يقين بأنّه سيثمر يوما ما بإذن الله.. يقول الحقّ جلّ وعلا: ((فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى)).
سلطان بركاني – الشروق الجزائرية