ساعة إلا دقيقة.. في ذمة المرواني
«إلى الذِينَ يصرُّونَ علَى الإبحارِ بعيدًا.. مهمَا كانتِ الأعاصيرُ عاتيةً.. والرِّياحُ قويَّةَ.. وأمواجُ الحياةِ متلاطمةً.. يبحثُونَ عَن فسحةِ نورٍ.. تمنحُهم أملًا.. تشعُّ منهُ شمسٌ مشرقةٌ.. تعيدُ لهُم الاتِّزانَ».. ص 59 إهداء المنتصفِ.
المقدِّمةُ والعنوانُ اقتبستهمَا مِن المجموعةِ القصصيَّةِ للشَّاعرِ الرَّقيقِ سيف المروانيِّ، إهداء المنتصفِ بعدَ الدقيقةِ الثَّلاثِين. «ساعة إلَّا دقيقة»؛ لأنَّ كلَّ دقيقةٍ التقاطةٌ سرديَّةٌ، قصصٌ قصيرةٌ، تصفُ الآخرِينَ، مِن مشاهداتِهِ فِي الشَّارعِ، فِي الفندقِ، فِي الحياةِ، لكنَّ الدقيقةَ الثلاثِين قصَّةٌ تتماهَى معَ حياةِ سيف، كمَا ذكرَ الدكتورُ أحمد الشدوي.
عرفتُ «سيفًا» منذُ سنواتٍ طويلةٍ، إبَّانَ عملِهِ فِي وسائلَ إعلاميَّةٍ شهيرةٍ، وعرفتهُ فِي نادِي جدَّة الأدبيِّ عضوَ الجمعيَّةِ العموميَّةِ وعضوَ ملتقَى السَّردِ، عندمَا كانتْ تترأَّسهُ الرَّاحلةُ سعاد السلمي -رحمةُ اللهِ عليهَا- كذلكَ عرفتهُ شاعرًا مِن خلالِ إهدائِي بعضَ دواوينِهِ، وعرفتُهُ مِن خلالِ صداقتِي معَهُ علَى فيسبوك، تلكَ المعرفةُ مِن خلالِ كلِّ تلكَ القنواتِ؛ كوَّنتْ لديَّ هذهِ المعرفةَ الوثيقةَ بالأديبِ سيف المرواني.
مهذبٌ، راقٍ، تنسالُ مِن قلمهِ ومِن لسانِهِ أعذبُ الكلماتِ، شخصيَّةٌ يجذبُكَ بروحِهِ وطيبتِهِ وشهدِ حديثِهِ، لذلكَ أحببتُهُ -إنْ جازَ لِي وقدْ بلغتُ مِن العمرِ عِتِيًّا- أجلْ أُحبُّ سيف المرواني. لأنَّ كلمةَ «حُبٍّ» لَا نستخدمهَا إلَّا فِي مجالِهَا الضيِّقِ جدًّا، فإذَا قالتْ امرأةٌ حتَّى لوْ كانتْ فِي سنِّي لرجلٍ أُحبُّكَ، تدخلُ فِي القوائمِ السَّوداءِ، معَ أنَّ الحُبَّ مِن المحبَّةِ، محبَّة الابنِ والأخِ والصَّديقِ، وهكذا، لَا تعنِي العشقَ، ولا تقتربُ منهُ!.أتابعُ تدفُّقَ المرواني الشِّعري، وانتظامَهُ بإصدارِ ديوانِ شعرٍ كلَّ عامٍ يحتفِي بهِ فِي القاهرةِ، وقدْ جمعَ حولَهُ أصدقاءً ومحبِّينَ امتلأتْ بهِم قاعةُ «المؤسَّسةِ القوميَّةِ لتنميةِ الأسرةِ والمجتمعِ»؛ التِي عُقدتْ بهَا ندوةُ المرواني الأخيرةُ.
كلُّ مرَّةٍ يعلنُ عَن توقيعِ ديوانِهِ، أتمنَّى أنْ أكونَ فِي القاهرةِ؛ لأكونَ ضمنَ المحتفِينَ بإبداعِهِ، أحيانًا أكونُ فِي القاهرةِ، لكنْ لَا أتمكَّنُ مِن الحضورِ لارتباطاتٍ مُسبقةٍ، هذَا العام حرصتُ علَى الحضورِ، تهتُ قليلًا لكنْ وصلتُ أخيرًا.
بهرني الحضور النوعي في القاعة الممتلئة، قدم عدد من النقاد قراءات مختلفة لأول مجموعة قصصية يصدرها المرواني، د. أسامة البحيري، د. أحمد فرحات، د. إبراهيم النحاس، د. أسامة نور، أدار الندوة باقتدار الروائي والناقد الدكتور أحمد الشدوي، قدم كل منهم قراءة مختلفة، وهذا -من وجهة نظري- يثري الندوات، ويفيد المبدع؛ لأنه يستفيد من كل القراءات التي تضيء له الطريق، وتصحح مساره على طريق الإبداع.
كلُّ ناقدٍ لهُ وجهةُ نظرٍ، وقراءةٌ مختلفةٌ، هذَا المطلوبُ بالتأكيدِ، لكنَّ بعضَ مَن يعتلِي المنصَّة ناقدًا؛ ربَّما لمْ يقرأْ المجموعةَ قراءةً عميقةً، فيدورُ الحديثُ حولَ المبدعِ وعلاقتِهِ، وعَن أمورٍ لَا علاقةَ لهَا بالموضوعِ، والبعضُ يسهبُ فِي القراءةِ مِن ورقةٍ مكتوبةٍ مُسبقًا، لا علاقةَ لهَا بالموضوعِ.طرحَ الدكتورُ أحمد فرحات رؤيةً أتَّفقُ معَهُ فيهَا، لو أنَّ الشَّدوي خالَفهُ الرَّأيَ، وهذهِ وجهةُ نظرٍ أيضًا تُحترمُ، لكنْ طالمَا أنَّ هذهِ المجموعةَ القصصيَّةَ الأُولَى للمروانيِّ بهذهِ اللغةِ الشعريَّةِ الجميلةِ؛ فهِي بوابةُ الدخولِ فِي عالمِ السَّردِ، وأنَا علَى ثقةٍ بأنَّ «سيفًا» أفادَ مِن كلِّ النَّقدِ الذِي طُرحَ في الندوةِ، كمَا أتمنَّى أنْ يمنحَ قصصَهُ البديعةَ التِي أطلقَ عليهَا «التقاطات سرديَّة» عمقًا، كمَا ذكرَ الدكتور فرحات.
لا شكَّ أنَّ القصَّةَ القصيرةَ لَا تحتملُ الأبعادَ النفسيَّةَ والاجتماعيَّةَ والعلميَّةَ، كمَا هِي فِي الروايةِ، لكنَّ عنصرَ المفارقةِ مهمٌّ فِي القصَّةِ القصيرةِ.
لا شكَّ أنَّ التقاطاتِ سيفٍ متنوِّعةٌ ومكتوبةٌ بلغةٍ آسرةٍ، تمنحكَ هذهِ المتعةَ التِي نرومُهَا مِن القراءةِ!.
نبيلة حسني محجوب – جريدة المدينة