آراء

لماذا لا نقرأ كليلة ودمنة؟

فى سنة 200 ق.م كتب الفيلسوف الهندى، فيشو شارما، كتابا بعنوان بنجاتنترا، أى الفصول الخمسة باللغة السنسكريتية، وأهداه لملك البلاد دبشليم ليهتدى بما فيه من حكم فى أسلوب إدارته للبلاد والعباد. وفى القرن الثانى الميلادى ترجم الأديب العربى، عبدالله بن المقفع، الكتاب إلى اللغة العربية تحت عنوان «كليلة ودمنة».

لعل كثرا منا قرأ هذا الكتاب الذى تجرى أحداثه على ألسنة الحيوانات وأدركنا حكمته وقيمته، ولعلنا فى ظروفنا التى نعيشها فى عالمنا العربى نذكر القصة التى فى ختامها يصرخ الثور الأحمر قائلا: أُكلت يوم أُكل الثور الأبيض! بعد أن أدرك بعد فوات الأوان وندم حيث لا ينفع الندم أن تفريطه فى بنى جنسه ــ الذين كانوا سبب منعته وقوته ــ- كان سببا فى هلاكه.

• • •

قصة أخرى نقلها لنا ابن المقفع عن الحكيم بيدبا، قصة الغراب الذى ألقاه إخوانه على أعشاش البوم، أعدائهم الألداء، بعد أن نتفوا ريشه ونكلوا به تنكيلا، فاستضافه البوم وأكرموه بينهم ومكث وسطهم زمنا حتى جمع كل أسرارهم ومداخل أوكارهم ونقلها إلى أعدائهم الغربان، فهجموا عليهم وأحرقوا أعشاشهم ونكلوا بهم تنكيلا.

قصة ترمز إلى أهمية جمع المعلومات وكشف أسرار العدو للانتصار عليه. نشاط نعرفه فى عصرنا هذا بالمخابرات والجاسوسية. لدينا قصص كثيرة تعكس لنا عن المخابرات والجاسوسية فى تاريخ الصراعات بين الدول. فى الحرب العالمية الأولى، انتشرت قصة الغانية الهولندية مارجريتا جِرترودا زيل التى اشتهرت باسم ماتا هارى، التى كانت تغوى الضباط الفرنسيين الذين يرتادون الحانات التى ترقص بها، وتنقل المعلومات التى تحصل عليها منهم إلى الجيش الألمانى حتى تم ضبطها وإعدامها. وفى الحرب العالمية الثانية، كان Richard Sorge الجاسوس السوفيتى الذى عمل تحت غطاء الصحافة مراسلا فى طوكيو والذى أقام صداقة مع السفير الألمانى وطاقم السفارة مكنته من نقل معلومات وأسرار خطيرة عن التحالف الألمانى اليابانى إلى موسكو.

وخلال الحرب الباردة اشتهرت حلقة الجاسوسية السوفيتية التى عرفت بخماسية كمبريدج The Cambridge five التى ضمت Kim Philby وGuy Burgess وDonald Macleen وAnthony Blunt Cairn وJohn Cairncross وكلهم تخرجوا فى جامعة كامبريدج، ومن ثم كانت التسمية. استطاع هؤلاء الذين جندتهم المخابرات السوفيتية أن ينفذوا إلى مناصب رفيعة وحساسة فى المخابرات البريطانية ومكتب اتصالها مع وكالة المخابرات المركزية الأمريكية، وأن ينقلوا معلومات حساسة وقصيرة إلى موسكو.

• • •

يظل العنصر البشرى عنصرا هاما وحيويا فى أعمال المخابرات والجاسوسية إلا أن العنصر التقنى والعلمى قد خطى خطوات هائلة فى هذا المجال، ولعل استغلال العنصر التقنى فى جمع المعلومات بدأ باستخدام فرنسا البالون فى عام 1794 فى حربها مع النمسا. وكان وقتها اختراعا جديدا ومبتكرا استخدمته فرنسا فى ميدان القتال ليرصد خطوط جيش النمسا ويكشف عن أضعف وصلاته ليتم اقتحامها، وحققت فرنسا بذلك انتصارا باهرا فى المعركة. واستمر استخدام البالون فى الحرب الأهلية الأمريكية فى ستينيات القرن الـ19، ومع اختراع الطائرة فى بدايات القرن الـ20 كان لها دور كبير فى الاستطلاع الجوى فى الحرب العالمية الأولى خاصة مع التقدم فى تقانة التصوير الفوتوغرافى الذى مكن الطائرات من نقل معلومات شديدة الأهمية عن الحشود والتحصينات للطرفين المتحاربين.

خطت طائرات التجسس خطوات هائلة أثناء الحرب الباردة عندما صنعت الولايات المتحدة الطائرة U-2 التى كانت لها القدرة على الطيران على ارتفاع 70 ألف قدم، وهو ارتفاع تعجز عن تحقيقه طائرات عصرها أو أن تصله الصواريخ المضادة للطائرات. وظلت الطائرة U-2 ترتع فى سماء الاتحاد السوفيتى تلتقط الصور لدشم صواريخه النووية واستحكاماته الدفاعية، حتى استيقظت الولايات المتحدة على كابوس مخيف فى يوم الأول من مايو 1960 عندما أسقط الاتحاد السوفيتى الطائرة U-2 بصاروخ جديد طوره يصل إلى الارتفاعات الشاهقة وهو الصاروخ سام 2.

سقطت الطائرة، والأنكى من ذلك، أنه تم أسر طيارها فرانسيس جارى باورز. وتسببت هذه الواقعة فى أزمة دبلوماسية حادة أدت إلى إلغاء القمة التى كانت معدا لها للقاء الرئيس كينيدى والرئيس خروشوف، ورغم الانتكاسة التى حدثت فقد استمرت الطائرة U-2 فى مهامها وحققت نجاحات كبيرة، منها الكشف عن شبكة الصواريخ التى نصبها الاتحاد السوفيتى فى كوبا فيما عرف بأزمة الصواريخ الكوبية التى وضعت العالم على حافة حرب عالمية نووية فى أكتوبر من عام 1962.

ومع تطور نظم الدفاعات الجوية لأعداء أمريكا من صواريخ وطائرات اعتراضية قادرة على الوصول إلى ارتفاعات شاهقة، وهو أمر أدى إلى إسقاط الصين لخمس طائرات من طراز U-2، لم تحدث ضجة إعلامية لعدم رغبة الصين فى التصعيد ولتجنب الولايات المتحدة نفسها الحرج. وكان لابد لأمريكا أن تصنع جيلا جديدا من طائرات الاستطلاع، فكانت الطائرة المعجزة SR-72 القادرة على التحليق على ارتفاع يصل 85 ألف قدم كما تتميز بسرعتها الفائقة التى تبلغ 6 ماغ فى حين أن الطائرةU-2 لم تتجاوز سرعة الصوت.

وفى مرحلة لاحقة حلت الأقمار الصناعية محل الطائرات لتجوب الفضاء كاشفة لكل ما يجرى على الأرض بعيدا عن منال المضادات الأرضية، ولكن هل يستمر تسيدها الاستطلاع الجوى طويلا أم سيلحقها ويحيدها التطور العلمى والتقنى بعد أن دشنت الولايات المتحدة فرعا لحروب الفضاء ضاربة عرض الحائط بالاتفاقات الدولية التى تحظر تسليع الفضاء؟

وفى مجال الرصد كان للكمبيوتر دور كبير فى رصد الأهداف وتدميرها وقد نجحت بريطانيا عن طريق جهاز الكمبيوتر الضخم الذى صنعته أثناء الحرب العالمية الثانية من كسر الشفرة الألمانية Enigma، وعن طريق ذلك نجحت فى رصد سير الغواصات الألمانية التى كادت تكسر إرادتها، ونجحت أيضا فى كسر الشفرة اليابانية ونقلت إلى الولايات المتحدة حركات القائد اليابانى الفذ الأميرال ياما موتو واعترضت مقاتلاتها طائرته وأسقطتها وقتلته.

لكن ما هو الهدف وراء هذه الديباجة الطويلة؟ إنه الحرص على إظهار أهمية الرصد والمتابعة والتحليل فى الصراعات وفى الحروب، ودفعنى لكتابة هذه السطور مقتل زعيم حماس، إسماعيل هنية، فى غرفته بدار ضيافة فى طهران عقب مشاركته فى احتفالات تنصيب الرئيس الإيرانى الجديد. تناولت وكالات الأنباء العالمية أنه قُتل بعد أن تسلل صاروخ من نافذة البيت ليقتله فى غرفة نومه، وكأنها ترويج لقدرة إسرائيل الهائلة على الرصد، ثم خبرا آخر يقول إن الصاروخ انطلق من بلد قريب من إيران وكأن الغرض إثارة الشكوك والريب بين دول المنطقة، ثم أتحفتنا «النيويورك تايمز» أخيرا بأنه قُتل بواسطة قنبلة زرعت فى البيت قبل وصوله بأشهر وكأنها تقول لنا عن قدرة إسرائيل ليس على الرصد فقط بل بقدرتها على التكهن بأين سيكون الهدف بعد شهر مع التنويه بشكوك الخيانة، خاصة وأنها فى اليوم التالى تحدثت عن حركة اعتقالات واسعة فى إيران.

هل كان الأمر صاروخا أم قنبلة؟ أين قدراتنا العربية على الرصد، خاصة وأن هذه ليست أول حادثة ومنها حوادث أكثر جسامة عجزنا عن رصدها، مثل اختراق الطائرات الإسرائيلية مجالات دول عديدة لقصف المفاعل النووى العراقى، وعجزنا عن رصد الطائرات التى قصفت ما قالت عنه إسرائيل كذبا إنه مفاعل نووى سوري. وقصف الطائرات الأمريكية المغبرة لمصنع الشفاء فى السودان بدعوى أنه مصنع للأسلحة الكيماوية. عجزنا عن الرصد يجعل سماواتنا مفتوحة أمام العدو، ويجعله قادرا على نشر أكاذيب عن خط سير الطائرات والصواريخ التى عجزنا عن رصدها ثم متابعتها ثم تحليل الحادث لتجنب وقوعه مرة أخرى.

إن حادث 31 يوليو يجب أن يكون حافزا للعرب جميعا على تنمية قدراتنا على الرصد والمتابعة والتحليل حتى نقدر على حماية أمننا والتصدى لأعدائنا. مع التقدم الهائل فى صناعة الصواريخ والطائرات القادرة على الوصول إلى أهدافها فى غضون دقائق هذا هو المعيار الفارق بين النصر والهزيمة، وبين الحياة والموت.

محمد عبدالمنعم الشاذلي – الشروق نيوز

اضغط هنا للانضمام لقروبات كوش نيوز على واتساب

قروبات كوش نيوز الإضافية



زر الذهاب إلى الأعلى