«تاجر الحكايات».. مأزق البراءة والفقر والرقابة
عندما تنتهى من قراءة هذه الأقاصيص، التى لا تزيد كل واحدة منها على كف اليد، يراودك شعور عام، ستدرك فيما بعد أنه غير صحيح، بأن كل حكاية جميلة فى حد ذاتها، ولكن من الصعب أن تجد ما يربطها بغيرها، ومع القراءة الثانية، ستكتشف أن ما بين هذه الحكايات أقوى مما تعتقد، وأنها ترسم ملامح عالم واحد مغلق ومتماسك، مجتمع خاص فيه الأعلى والأسفل، بدون منطقة وسطى، ويحكمه مثلث محكم من ثلاث أفكار متكاملة هى البراءة، والفقر، والرقابة. المجموعة الصادرة عن الدار المصرية اللبنانية بعنوان «تاجر الحكايات»، يختزل فيها مؤلفها حسن عبد الموجود كل قصة إلى عدة سطور، مثلما نقرأ مثلًا فى أقاصيص زكريا تامر، أو فى توظيف نجيب محفوظ الفذ للأقصوصة فى «أصداء السيرة الذاتية»، أو فى «أحلام فترة النقاهة»، والاختزال هنا لا يعنى قلّة المادة، ولكنه اختيار فنى لمضاعفة التأثير، بالتقاط أقل صورة ولفتة وتعبير، والبحث عن المعنى فى العادى والعابر، واختيار الأكثر أهمية، وليس المهم فحسب.
يعيدنا هذا الشكل إلى الحكاية، أو البذرة التى خرجت منها القصص والروايات والسيناريوهات المصورة، وتاجر الحكايات هنا يمتلك رصيدًا كبيرًا من التركيز والذاكرة اليقظة، لا أحسب أنه تعمّد أن تكون حكاياته متناثرة ومرتبطة معا فى نفس الوقت، ولكنه يعرف هذا العالم، ويجيد التعبير عنه، وهو لا يبدأ من الفكرة، وإنما من الحدوتة والشخصية، التى يمكن أن تنوب عن الفكرة، وكلما كانت الحكاية أكثر بساطة، كان التأثير أقوى. ولا أظن أن التاجر يبيع الحكايات، أو يرتزق منها، ولكنه يمتهن جمعها، ويحترف الحفاظ عليها، ويقدر قيمتها، ويعرف أنها تجارة بلا ضفاف أو سقف، لأن حكايات الناس لا تنتهى، وهى بعدد البشر، المهم فقط أن تعرف كيف تحكيها؟ والأهم أن ترى فيها المعنى وراء الحدث والشخصية. وبينما تنقلك كل شخصية وأقصوصة إلى حالةٍ ما، فإنك سرعان ما ستجد فيها عناصر تشكل لوحة واحدة، ربما تكون قد انتظمت معا بطريقةٍ لا شعورية، بحيث يمكنك أن ترى مثلًا تفاوتًا طبقيا صارمًا، ووصفًا قويا للفقر، ليس كمفهوم نظرى، ولكن بتجليات التفاصيل: بقرصة الجوع، وباهتراء الحذاء، أو بمعركة بين الأطفال على وجبة بائسة، أو بحربٍ بين زوج وزوجته من أجل أكل أكبر قطعة من اللحوم.
الفقر هنا يجعل الخيال منحصرًا فى الطعام أولًا، كما أن الحرمان يمتد كذلك إلى الجنس، فتصبح الغاية الحصول على نظرة من جسد مدرّسة مريضة، أو بحسد المحروم للكلاب فى حصولها البسيط والسهل على المتعة، وينتقل الجنس أحيانًا إلى منطقة أكثر صعوبة، فيتلصص الأخ على شقيقته العارية، ويتجسد الذنب، فيزيد من الأزمة. طبقيّا هناك من يمتلك، ومن يستطيع أن يحوّل بؤس وأحزان قرية، إلى سبيكة من الذهب، ولكن تاجر الحكايات يهتم بالهامش، يشغله طابور المفلسين انتظارًا لحذاء من باتا، وتأسره أحلام حنا وعطاياه، ويحتفل بمحاولات التكيف عن طريق الخيال، الذى يلعب بدول الكرة الأرضية، والذى يريد ترويض ما فعله الزمن فى أجساد العجائز، والذى يمنح المعتقلين سعادة لعب الشطرنج الافتراضى. براءة الطفل فى المجموعة تقابل رقابة وسيطرة تتبدّى فى أبسط الأشياء، لا يفكر الطفل سوى فى أن يحصل على ما يريد، يتحايل من أجل ذلك، علاقته مباشرة بالعالم والطبيعة، ولا يفهم معنى المنع والرفض، ولكن فى الأعلى، هناك الأخ الكبير، بل والأب الذى يغلق جهاز التليفزيون، عندما تأتى لقطة القبلة، وهناك العيون التى تملأ محطة المترو، والحفلة المسرحية، وهناك الملك فؤاد، الذى يمتلك قطعة معدنية لا تعترف بالوجهين المختلفين، فعلى وجهيها صورة الملك فقط. بعد أن تعيد القراءة، ستجد حتمًا صراعًا ليس سهلًا، يتسلل بين الأقاصيص، مصدره فى هذا المزيج بين اكتشاف الحياة، ومنعها، بين براءة ساذجة، وأقدار محيطة وخانقة، بين شخصيات تتصرف بكثير من الفطرية، ومجتمع محدد بالحركة والعادات والتقاليد، تشعر أحيانًا أن العالم كبير فعلًا، ولكن ما سمحت به الظروف والأحوال، هو هذه الأقاصيص التى تسجل لحظات ومواقف صغيرة.
استدعاء الطفولة يتم بوعى وذكاء، ليست هدفًا فى حد ذاته، ولا مكان للنوستالجيا والحنين، ولكن المساحة كلها للتأمل، لا معنى للتجميل أو للرومانسية، بل إن هناك إصرارًا على الصدمة، ومعاينة الحقيقة بكل تفاصيلها، الواقع حاضر بقوة، وحتى تجريد بعض الحكايات، وألوان السطوة والرقابة، تعيدنا من جديد إلى الواقع، لا شىء يستحق سوى وضع الحكايات بجانب بعضها، لكى نرى أفضل وأعمق. من حيث شكل السرد وأدواته، لا ثرثرة ولا فضول، ولا وصف زائد أو بلا معنى، فى السطر الأخير يتجلى المعنى، أو قد تترك الأقصوصة لكى يبحث القارئ عن مغزاها، عنوان الأقصوصة قد يكون أحد مفاتيحها، ولكنه لا يصادر فى كل الأحوال على أن يجد القارئ معناه، أو ربما اكتفى بانطباع مبهم، محير، ومقلق، والحقيقة أن المجموعة كلها لا تترك شعورًا بالراحة والتسليم، ولكنها تترك إحساسًا بالقلق والحيرة. ومثلما يؤلم الفقر البطون، ويعرى الأجساد، فإنه أيضًا تربة للتزمت والعنف ولعدم التسامح، تظهر سلطة إضافية تستخدم الدين، وتحفل بالتضييق، تمنع الأغنية، وتحتفى بظهور زبيبة الصلاة، حتى لو تم رسمها على الجبهة بكحل الأم. يضيق العالم أكثر كلما اقتربنا من نهاية المجموعة، رغم لحظات بحث خاطفة عن الجمال، ولحظات أخرى لاكتشاف نور الحب فى سن الشيخوخة، أو فى لحظة نادرة لتسلل السعادة، متسلقة الأشجار العالية. نمتلئ حقا بعالم تفتت إلى قطع البازل، التى تتجاور لتصنع شكلًا واحدًا، عندما نقوم بترتيبها. يجتمع الطفل والفقر والرقيب فى جدارية واحدة، وتبقى فى ذاكرتك أقصر حكاية: «رأسى على صدرها. أطالع وشم الطائر المستقر بين التلّين، وكلما حاولت أن أصعد باتجاه شفتيها، ينقرنى فى عينى».
محمود عبدالشكور – بوابة الشروق