رأي

عثمان ميرغني يكتب : أيهما المفتي؟

هل تعطل صلاة الجمعة؟ وصلاة الجماعة في بقية الأوقات بالمساجد؟ ليس مهماً الإجابة على السؤالين، بل الأهم من هو المسؤول والمفوض بالإجابة؟

قبل سنوات، عندما كثرت في الأخبار عمليات انتحارية يفجر فيها الفلسطينيون أنفسهم في محطات القطارات والحافلات والأسواق داخل إسرائيل.. شاركت في حوار تلفزيوني كان طرفاً فيه أحد كبار الشيوخ المعروفين، وهو خطيب وإمام أحد المساجد الشهيرة. سألنا مقدم البرنامج، هل العمليات الانتحارية حلال أم حرام؟

أجاب الشيخ أنه كان مشاركاً في مؤتمر إسلامي بلبنان وطُرح عليه نفس السؤال فكانت إجابته (طالما ليس هناك قدرة على عمليات عسكرية ضد إسرائيل غيرها فهي حلال..)!

قلت للشيخ مستنكرا، أنت هنا تقمصت صفة خبير عسكري خريج كلية عسكرية!

من الأجدر بإصدار فتوى الصلاة في المساجد؟ وزير الشؤون الدينية أم وزير الصحة؟

الإجابة ليست مرتبطة باختصاصات الوزارتين بل مباشرة بجدلية لا زالت تشغل الوسط السياسي، ما يسمى بجدلية “فصل الدين عن السياسة”! وما طُرح أخيراً في مفاوضات السلام بجوبا، حينما طالبت الحركة الشعبية شمال “مجموعة السيد عبد العزيز الحلو” بـ” علمانية” الدولة شرطاً لازماً للسلام.

تعوَّد الناس على أن كلمة “فتوى” تسري في النطاق الذي يسمى “ديني”، وهذا خطأ فادح، قريب الشبه بما قاله الشيخ آنف الذكر عن العمليات الانتحارية الفلسطينية.

الإنسان في كل تفاصيل حياته الخاصة أو العامة وعلى مدار الساعة يحتك يومياً بمئات المواقف والتفاصيل التي تتطلب أن يتخذ موقفاً أو مسلكاً معيناً تجاهها، ولا يمكن تصور أن يكون “الدين” “كتالوج” يحوي تعليمات دقيقة أشبه ببرنامج الكمبيوتر المخصص لتشغيل الإنسان الآلي “الروبوت” ..

الإسلام وضع الإطار المعرفي والمفاهيم العامة التي من شأنها أن تجعل الفرد قادراً على استصدار القرار أو الموقف أو المسلك الذي يحتاجه للتعامل مع تفاصيل الحياة، ويصبح المحك دائماً في قدرة الإنسان على ترفيع فهمه ووعيه لا على “انضباطه” وفق تعليمات “الكتالوج”.

مثلاً؛ هل يذهب إلى المسجد لأداء الصلوات الخمس والجمعة، في ظل تحذيرات وزارة الصحة من التجمعات؟

الإجابة يجدر أن يتخذها الفرد بناء على فهمه لكون الدين إطاراً معرفياً ومفاهيمياً لا حزمة “تعليمات”.. على مبدأ “إستفت قلبك وإن أفتاك الناس وأفتوك..”

وفي تقديري هنا تكون الإجابة واضحة كالشمس، تعليمات الجهة العلمية والفنية المختصة تصبح في مقام “الفتوى”.. ويصبح أمر وزير الصحة فوق ما يقوله وزير الشؤون الدينية، بل طاعة تعليمات وزارة الصحة هي طاعة لله ولرسوله، حتى ولو تناقضت تماماً مع تعليمات وزارة الشؤون الدينية ومجمع الفقه الإسلامي.

غاية الدين أن يجعل الإنسان قادراً على التمييز بين الخير والشر، بين الحق والباطل، وليس تحويل الإنسان إلى “رجل آلي” يتحرك وفق برنامج مغذى في عقله يحركه بمنتهى الآلية. كل العبادات التي يمارسها الإنسان تهدف لترفيع وعيه وإدراكه ليحقق هذه الغايات.

إذا تاه أربعة رجال في الصحراء، وجاء وقت الصلاة واختلفوا في اتجاه القبلة، بحيث كل منهم أشار إلى اتجاه مخالف للبقية، فإن الواجب عليهم أن يصلي كل منهم في الاتجاه الذي غلب على ظنه أنه القبلة، بل وتفسد صلاته إذا صلى مع أي من الآخرين، فالقبلة ليست مجرد اتجاه جغرافي محض، بل هي “اتجاه” ذاتي وجداني في قلب الإنسان، هكذا الدين يرقِّي “فهم” الإنسان وقدرته على اتخاذ القرار الصحيح. وقال الله تعالى في سورة “الشعراء” (يَوْمَ لَا يَنفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ (88) إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (89)).

من يقرر تعطيل صلاة الجمعة أو الجماعة في المسجد، في هذه الحالة، هو وزير الصحة وليس وزير الشؤون الدينية.

وزير الصحة هو المفتي..

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

صحيفة التيار

اضغط هنا للانضمام لقروبات كوش نيوز على واتساب

قروبات كوش نيوز الإضافية



زر الذهاب إلى الأعلى