تحقيقات وتقارير

رحلة البحث عن السلام حتى الموت!!

نَعَتَ البلاد أمس، فقيد الوطن والقوات المُسلّحة، وزير الدفاع الفريق أول ركن جمال الدين عمر محمد إبراهيم، الذي وافته المنية بجوبا وهو يقود المُفاوضات بمنبر جوبا للسلام مع قيادات الجبهة الثورية، إثر نوبة قلبية لم تمهله طويلاً.. ويُعتبر الفريق جمال الدين عمر وزير الدفاع امتداداً لقيادات البلاد الذين لقوا حَتفهم وهم في رحلة البحث عن السلام، وهو أهم الملفات التي تتعلّق بمسيرة نهضة السُّودان وتطوُّره ونمائه بعد أن أقعدته الحرب فترةً طويلةً من الزمن.

الفريق جمال الدين عمر، وبوفاته في جوبا في مهمة رسمية، انضم للقيادات من الوزراء والمسوؤلين، الذين لقوا حتفهم وهم في مُهمّات رسمية بحثاً عن السلام، أمثال المشير الزبير محمد صالح، العقيد إبراهيم شمس الدين والفريق جون قرنق نائب رئيس الجمهورية عقب اتفاق السلام الشهير.. ويأتي (السلام) قاسماً مُشتركاً بين وفاتهم، رغم أنّ وفاة جمال كانت نتاج نوبة قلبية مُفاجئة، ولكن القيادات الأخرى كانت وفاتهم إثر تحطُّم المروحية التي كانت تقلّهم، وهذه هي المفارقة التي جمعت بينهم.. لكن الأربعة، يبقى هدفهم ومحور مُهمّتهم الرسمية والأولى كان هو البحث عن سُبُل وطرق للسَّلام الشّامل في السودان بعد أن أحدثت الحرب التي استمرت زهاء الثلاثة عقود، تأثيراً كبيراً على مقدرات البلاد، انعكست على الاقتصاد والسياسة والمُجتمع بصورةٍ كبيرةٍ.. وبوفاة الفريق جمال وزير الدفاع، فتح باباً، كثيراً ما أثار الدهشة وسط المراقبين، إذ لبى جراء البحث عن السلام.

مسؤولون حكوميون كُثر وفي هذه المساحة التالية، نتطرّق لظروف ومُلابسات وتاريخ وفاتهم والمنطقة التي اُستشهد فيها كل منهم:

 

مقتل الزبير

كان في مُقدِّمة الذين لقوا حتفهم وهم في رحلة البحث عن السلام في السودان، المشير الزبير محمد صالح الذي توفي  في 13 فبراير 1998، إثر حادث سقوط طائرة بنهر السوباط، وهو يقود ملف السلام في مدينة الناصر مع قيادات الحركة الشعبية وقتها.. الزبير محمد صالح أحمد الذي كان يلقّب “بكبد الحلة” وُلد في عام 1944م، وقد عُرف بثوريته وحركته الدؤوبة والثّائرة وسط السِّياسيين، وذَاع صيته منذ اندلاع ثورة الإنقاذ الوطني في 30 يونيو 1989، وسَطَعَ نجمه وملأ الآفاق بمواقفه القوية تجاه السلام ومُرتكزاته، وقد قال فيه قولته المشهورة بعد أن أقسم بالله لتنفيذ ذلك “والله سنمضي للسلام في أيِّ مكان يعز البلد”، وفي صبيحة 13 فبراير 1998، توفي الزبير إثر حادث سقوط طائرة في نهر السوباط بمدينة الناصر، وتم تشييع جثمانه من الساحة الخضراء وسط حُشُودٍ شعبية وعسكرية كبيرة، بيد أن وفاته تركت أثراً كبيراً على الساحة السودانية والسياسية والعسكرية.. وأصبح نائب رئيس مجلس قيادة الثورة والوزراء، وخلال سنوات حكم الإنقاذ تولّى الزبير الكثير من المناصب، فقد كان نائباً لرئيس مجلس قيادة الثورة والوزراء، ووزيراً للداخلية، كما تولّى مسوؤلية الإشراف المُباشر على تنفيذ المشاريع الرئيسية، وكانت له جُهُود كبيرة في مجال العلاقات الخارجية.. وبوفاته سمي بـ(شهيد الإنقاذ)، لأنه توفي وهو كان في مهمة رسمية تتعلق بملف السلام الذي أوكلته للزبير الذي عُرف بكثافة الحركة والصبر على الآخرين.

مقتل شمس الدين

الفاجعة الأخرى التي تركت أيضاً أثراً كبيراً على الساحة السياسية والعسكرية، هو رحيل وزير الدولة بالدفاع العقيد الركن إبراهيم شمس الدين الذي يُلقِّب بـ(رجل الثورة)، إثر انحراف الطائرة التي كان يستقلها مع بعض المسؤولين في الحكومة عن المُدرّج لدى هبوطها في مطار عدارييل العام 2001م بالقُرب من مدينة ملكال.. وأشارت الأخبار وقتها إلى أنّ سُوء الأحوال الجوية في المنطقة أدّى إلى سُقُوط الطائرة التي مات فيها أيضاً العديد من قيادات القوات المُسلّحة الذين كانوا برفقة شمس الدين وفي طريقهم لبحث عملية السَّلام مع أطراف من المُعارضة الجنوبية قبل الانفصال.. وقد عُرف أيضاً العقيد شمس الدين بثوريته الطاغية مِمّا أكسبه شعبيةً كبيرةً وسط مُحبيه ومُعارضيه.. شمس الدين حصدت حادثة وفاته الكثير من التأويلات، لجهة أنّه لم يكن شخصية عادية، فقد تركت مواقفه المبدئية والقوية آثاراً وسط معارضيه كما لدى محبيه، بعد أن نذر نفسه مُتطوِّعاً لمُجابهة كل المواقف أمام أيديولوجيته السياسية التي يؤمن بها وتجاه حكومته التي يتولى منصب وزير دولة بالدفاع، وأكسبته هذه المواقف القوية والشجاعة أن جعلته قريباً من الرئيس المخلوع عمر البشير، فكان ساعده الأيمن الذي يتكئ عليه في بناء القوات المسلحة ومُجابهة الخصوم.

مقتل قرنق

أما الحادثة الثالثة والتي وجدت أيضاً رواجاً كبيراً وتركت آثار ما زالت باقية، هي حادثة مقتل العقيد جون قرنق دي مبيور نائب رئيس الجمهورية، قائد الجيش الشعبي لتحرير السودان الجناح العسكري للحركة الشعبية الحاكمة لجنوب السودان اليوم، عقب الانفصال الشهير الذي أعقب وفاته العام 2010 بعد استفتاء أحادي لأبناء الأقاليم الجنوبية بناءً على مقررات اتفاقية نيفاشا الشهيرة.. وفاة قرنق حدثت يوم الاثنين 2/8/2005م الذي سمي بـ(الأسود)، لأنّ البلاد شهدت خلاله أحداثاً دموية ومأساوية، فقدت على إثرها العديد من الأنفس ما بين قتيل وجريح عقب التداعيات الخطيرة والاتّهامات بأنّ حادثة وفاته كانت بفعل فاعل، وذلك لأنّ الحكومة وقتها لم تتأكّد بعد عن مقتل قرنق رغم التسريبات بموته في جهة غير معلومة، بيد أنّ دولة أوغندا التي كان بها قرنق سارعت وأعلنت أنّ الطائرة (المحطمة) التي كان يقلها الفقيد تتبع للرئاسة الأوغندية، وأن تحطمها كان نتاجاً لسوء الأحوال الجوية، بيد أن لم يفِ لإيقاف الأحداث مما حدا بالرئيس المخلوع عمر البشير ليعلن عبر بيانٍ له، مقتل النائب الأول للرئيس جون قرنق في حادث تحطُّم مروحية كانت تقله من أوغندا إلى جنوب السودان.. وقال البيان إنه “تأكد تماماً أن الطائرة سقطت إثر اصطدامها بسلسلة جبال الأماتونج في جنوب السودان نتيجة لانعدام الرؤية”.. وأضاف أنه “نتجت عن ذلك وفاة الدكتور قرنق وستة من مُرافقيه وسبعة من أفراد طاقم الطائرة الرئاسية الأوغندية”.. ونعى البشير في بيانه “رجلاً آمن بالسلام وعمل له بصدق وقوة وعزيمة مما فتح له قلوب أهل السودان”.

أما الحركة الشعبية لتحرير السودان التي كان يتزعّمها قرنق، فقد تعهّدت “بتطبيق اتفاق السلام” المُوقّع في يناير مع الخرطوم.. ودَعت الحركة في بيانٍ تُلي في مقر الحركة في العاصمة الكينية السودانيين إلى التزام الهدوء، مُؤكِّداً أن قادتها سيعقدون اجتماعاً طارئاً لتحديد استراتيجيتهم.

وفي نيروبي، أكد نائب جون قرنق أن المروحية التي كانت تابعة للرئيس الأوغندي يوري موسيفيني تحطّمت في جنوب مدينة نيوكوش.. وقال سلفا كير في مؤتمر صحفي صباح ذات الاثنين بـ”نوسايد”، حيث مقر الحركة الشعبية لتحرير السودان إن “جنوب السودان وكل السودان فقد ابناً عزيزاً”.. وأضاف “نود طمأنة الجميع بأن قيادة وكوادر الحركة الشعبية لتحرير السودان والجيش الشعبي لتحرير السودان سيبقون موحدين وسيسعون جاهدين لتطبيق اتفاق السلام بكل صدق”.. والجيش الشعبي لتحرير السودان هو الجناح المسلح للحركة الشعبية لتحرير السودان.

وفاة الفريق جمال

الفريق جمال الدين كان هو آخر الذين لقوا حتفهم في رحلة البحث عن السلام أمس بمدينة جوبا عاصمة جنوب السودان، التي تَحتضن منبر السلام بين الحكومة السودانية والجبهة الثورية بمكوِّناتها المختلفة من الحركات المسلحة والمعارضة السودانية.. اِنضَم الفريق جمال الدين عمر لمفاوضات جوبا مؤخراً لقيادة المباحثات مع الحركات المسلحة والحركة الشعبية تحديداً فيما يتعلّق بملف الترتيبات الأمنية التي تجد زَخماً وهمّاً كبيراً بين كل الأوساط (حكومة – مُعارضة).. وتمثل الترتيبات الأمنية عُقدة المُفاوضات، لجهة أنّها مَكمن نجاح كل المساعي التي سَبقت والأخرى العاقبة لعملية التفاوض، بيد أنّ الكثير من المُراقبين والمُحلِّلين السِّياسيين ربطوا بين نجاح منبر جوبا وعملية السلام بنجاح المفاوضات في الجزئية التي تتعلّق بملف الترتيبات الأمنية.

وقد نعته البلاد والقُوّات المُسلّحة وقياداتها ومديرو الإدارات والضباط والصف والجنود.. كما نعته الحركات المُسلّحة والأحزاب السِّياسيَّة وحكومة جنوب السودان التي أقامت له عزاءً رسمياً وأُقيمت له صلاة الجنازة هناك، شهدها الكثير من قيادات دولة الجنوب، قبل أن يتم ترحيل جثمانه إلى الخرطوم التي وُوري فيها الثرى.

تقرير: عبد الله عبد الرحيم

الخرطوم: (كوش نيوز)

 

اضغط هنا للانضمام لقروبات كوش نيوز على واتساب

قروبات كوش نيوز الإضافية



زر الذهاب إلى الأعلى