رأي

عثمان ميرغني يكتب: تعلم، كيف تصبح فقيراً..

أمس؛ لفت نظري في الصفحة الأخيرة بصحيفتكم “التيار” نعي شركة التأمينات المتحدة للسيد/ فؤاد معلوف.. في الحال عادت بي الذاكرة لقصة حزينة تؤكد أن عنوان الكتاب الذي قرأ منه السودان هو (تعلم كيف تصبح فقيراً في يوم واحد)..

قبل عدة سنوات عندما كنت أكتب هذا العمود في صحيفة “الرأي العام” رد الله غربتها، وفي زيارة عادية لقريتي “الخليلة” سمعت أحد أقربائي ينطق بعبارة “كوبري أبو أربعة” فسألته بعفوية أين يقع هذ الكُبري؟ فقال لي إنه الجسر ذاته الذي نعبره كل يوم دخولاً وخروجاً من القرية.. وأطلق عليه الاسم لأن به أربعة أعمدة خرسانة سميكة طويلة إثنتان في كل مدخل.. ولكني لم ألحظ إلا عموداً واحداً فسألت أين ذهبت الأعمدة الثلاثة الأخرى.. وتلقيت أغرب إجابة لم أكن أتوقعها إطلاقاً!

قالوا لي بعد انقلاب مايو 1969 صدرت قرارات ثورية بمصادرة وتأميم كثير من المنشآت الاقتصادية بحجة أنها تتبع لأجانب، وتحركت مظاهرة من شباب القرية تحت زهو الموجة الثورية إلى الجسر وحطموا الأعمدة الثلاثة وهم يهتفون ضد (الرأسمالية الأجنبية المرتبطة بالاستعمار)!! كما كان النظام يسميها..

كان الجسر الخرساني الجميل بأعمدته الأربعة هدية من عائلة “معلوف” لأهل القرية تساعدهم في العبور خلال موسم الفيضان والأمطار..

فوجئت باتصال هاتفي من السيد فؤاد معلوف، وهو إبن الدكتور معلوف صاحب أكبر مشروع زراعي في المنطقة والذي طالته موجة المصادرة الجائرة.. حكى لي القصة المحزنة كيف سطت الحكومة على المشروع بقرار من سطر واحد رغم أنهم مواطنون سودانيون وأقاموا المشروع بكدهم ومالهم.. ويشهد لهم أهالي المنطقة ما قدموه من خدمات، شيَّدوا المدرسة الوحيدة آنئذ، والمركز الصحي الوحيد، بل والمساهمة في بناء مسجدين رغم أن عائلة معلوف مسيحية..

بعده تلقيت اتصالاً هاتفياً من شقيقته السيدة نورما معلوف ثم اتصالاً عبر البحار من أمريكا من شقيقهما “رينيه” المقيم هناك، ووعدني أن يرسل لي صورة فتوغرافية تظهر فيها والدتهم وهي تتلقى تكريماً مستحقاً داخل ساحة أحد مساجد القرية إحتفاء بتبرعها ومساهمتها في بناء المسجد، رغم أنها مسيحية.

قال لي فؤاد معلوف إنه منذ صدور قرار مصادرة المشروع الزراعي لم يزر المنطقة إطلاقاً..

في كتابي (كيف أضاعوا السودان، عشر مخاز سودانية) سردت قصة عائلة معلوف التي استوطنت السودان مع نهايات القرن التاسع عشر وصارت جزءاً من دمائه وترابه الطاهر، وأنجزت واحداً من أنجح المشروعات الزراعية وألحقت معه مصنعاً لتجفيف الفاكهة وكانت أعمالهم تستوعب مئات من أهالي القرية.. حتى جاءت لعنة السياسة لتطيح بالمشروع وتحوله إلى (مشروع الشعب الزراعي) ومن يومها أصبح مثالاً باهراً لكتاب (تعلم، كيف تصبح فقيراً في يوم).. الفقر الذي نكابده صناعة سودانية مائة في المائة..

بصراحة رحل “الاستـ(ع)مار” الأجنبي وحل محله “الاستـ(د)مار” الوطني.

 

اضغط هنا للانضمام لقروبات كوش نيوز على واتساب

قروبات كوش نيوز الإضافية



زر الذهاب إلى الأعلى