تحقيقات وتقارير

آدم سميث .. لا يستطيع الحل من داخل الصندوق

آدم سميث أشهر اقتصادي عالمي وكان يلقب بأبي الاقتصاد، وهو صاحب نظريات السوق الحر.. كان اقتصادياً فيلسوفاً ومؤلفاً لكتب اقتصاد قيمة، وهو من بادر بإدخال علم الاقتصاد السياسي، وأخيراً ألف كتباً أصبحت مراجع أساسية في علم الاقتصاد، مثل كتاب نظرية العواطف الأخلاقية (1759م)، وكتاب ثراء الأمم (1776م). آدم سميث اسكتلندي ولد في يونيو 1723 وتوفي يوليو 1790.. تحدث في كتاباته عن ضرورة الإلتزام الأخلاقي النزيه في التعاطي مع إعمال نظريات الاقتصاد وضرورة الإدارة الرشيدة العلمية في الاستفادة من تنوع الثروات في كل أمة، وتحدث عن أهمية المرونة والتعامل مع النظريات بما يناسب واقع كل دولة، وربط في ثراء الأمم بين الاقتصاد والسياسة كعنصرين يكملان بعضهما.من فلسفة آدم سميث ونظرياته نرصد ونحلل ثلاث حقب في السودان منذ يونيو 1989:

 

*الحقبة الأولى من (1989-1999)

ورثت الإنقاذ اقتصاداً ضعيفاً لكنه كان قادراً على التعامل حسب المناخ، كانت فيه ديون السودان الخارجية 11 ملياراً من الدولارات، وكان فيه اقتصاد المحكوم بموجهات وأوامر الدولة خاصة في الاستيراد، وكانت فيه مشاريع زراعية منتجة وصناعات تحويلية مثمرة في مجالات السكر، النسيج، زيوت الطعام ومدابغ، إضافة إلى قطاع نقل منتج في أنشطة النقل البري، البحري والجوي، وكانت تكفي في مقابلة مصاريف أجهزة الحكم المناسبة في تسعة أقاليم أو مديريات (قبل انفصال الجنوب)، ومصروفات الأمن لا تتعدى ربع الميزانيات السنوية، واصلت الإنقاذ في ذات النهج حتى عبرت إلى الحقبة الثانية.

*الحقبة من (1999-2011)

في هذه الفترة تم اكتشاف وتصدير البترول، ومع تصدير البترول تم إهمال المشاريع الزراعية وخدمات النقل والصناعات التحويلية وأصبحت الميزانية تعتمد بنسبة 80% على صادرات البترول.. انهار مشروع الجزيرة وصناعات النسيج وزيوت الطعام، وأصبح السودان يستورد الأقمشة وزيوت الطعام بعد أن كان يصدرها، وانهارت السكة الحديد والخطوط الجوية السودانية والخطوط البحرية بنسبة 100%.

*الحقبة الثالثة من (2011-2018)

في يوليو 2011 انفصل الجنوب ومعه فقدت الميزانية 75% من بند الإيرادات، كانت من عائدات صادرات البترول، وكان سعر صرف الجنيه في نهاية هذه الحقبة الثانية، يتراوح بين (2 إلى 3) جنيهات.
من 2011 حتى 2018 بدأ الميزان التجاري يسجل عجزاً متواصلاً حتى بلغ في السنوات الثلاث الأخيرة ما يزيد عن ستة مليارات دولار، وبلغ الدين الخارجي 56 مليار دولار، وانخفض سعر الجنيه إلى قرابة الأربعين في مقابل الدولار.
ما نود أن نركز عليه هنا أن عجز الميزان التجاري كان يُغطى بعمليات الاقتصاد الخفي (خارج النظام المصرفي)، والذي تم فيه غض الطرف عن تدفقات العملات الأجنبية خارج النظام المصرفي، واستمرت المصانع في استيراد مدخلاتها عبر هذا المنفذ وكذلك التجار في كافة المجالات.

في نهاية هذه الحقبة وفي ميزانية 2018 الكارثية، تم التعامل الأمني مع الاقتصاد الخفي بمحاربة تجار العملة، مع إصدار قرارات من بنك السودان قيَّدت من حركة الاستيراد وتأثرت الصناعة والتجارة والصادرات من تلك القرارات، والتي كان دافعها شيئاً واحداً هو التحكم في سعر الدولار عندما بلغ 47 جنيهاً بداية عام 2018 دون مراعاة لآثاره السالبة على الاقتصاد الكلي للبلاد بسبب التوقف الفوري وقفل منافذ السوق الموازي دون إيجاد البديل، لذلك ما أود أن أقوله إنه وبسبب عدم وجود بديل لتدفق عملات أجنبية للسودان يتحتم التعامل بالمرونة التي ينادي بها آدم سميث بالتفكير خارج الصندوق، أعني صندوق الإجراءات الأمنية لمحاربة تجار العملة الذين يملكون قدرة فائقة في توفير العملات الأجنبية من أموال المغتربين وأخرى مجهولة المصادر بعد أن ثبت فشل هذا التعامل حيث زاد سعر الدولار من 47 جنيهاً في العام 2018 إلى 90 جنيهاً الآن في الربع الأول من 2019، وفي كل مرة تنجح الإجراءات الأمنية في خفض طفيف ولمدة قصيرة جداً سرعان ما يعود سعر الجنيه إلى تدنٍ أكبر مما كان وبوتائر مزعجة. فلماذا نكرر الخطأ والنتائج واضحة، دائماً أجد نفسي مردداً لمقولة العالم الفيلسوف أنشتاين (الجنون هو أن تكرر الخطأ نفسه وتتوقع نتيجة مغايرة).
الطريق السليم لمعالجة الاقتصاد يتطلب وضع سياسات اقتصادية تؤهل كل المشاريع المنهارة في الزراعة، الصناعة، النقل النهري والبحري والجوي، وهذا يحتاج إلى وقت لا يقل عن خمس سنوات، ومالاً لا يقل عن عشرة مليارات من الدولارات.

دعم الدول الصديقة يمكن أن يختزل ويقلل فترة الخمس سنوات، ولكن يكلف تحولاً جذرياً في السياسة الخارجية.
ختاماً نضرب أمثلة بأربع دول تعاملت وتتعامل بمرونة مع الاقتصاد الخفي أو الموازي والآن تقدمت على السودان وهي لا تملك ربع ثرواته، والأرقام أدناه للعام 2017 حسب كتاب المخابرات الأمريكية الدوري:
– أثيوبيا: الناتج القومي 200 مليار دولار (35% زراعة، 22% صناعة و43% خدمات)، معدل النمو 11% وعجز الميزانية 3,2% من الناتج القومي، معدل التضخم 9%، الأشخاص تحت خط الفقر 30%، احتياطي العملات الأجنبية والذهب 3 مليارات دولار.

– رواندا: الناتج القومي 25 مليار دولار (31% زراعة، 18% صناعة، 51% خدمات)، معدل النمو 6,5%، عجز الميزانية 4% من الناتج القومي، معدل التضخم 5%، الأشخاص تحت خط الفقر 39%، احتياطي النقود والذهب بليون دولار.
– جيبوتي: الناتج القومي 20 مليار دولار (3% زراعة، 17% صناعة، 80% خدمات)، معدل النمو 7%، العجز في الميزانية 9% من الناتج القومي، معدل التضخم 0,7%، الأشخاص تحت خط الفقر 23%، احتياطي النقود 550 مليون دولار.
– الأردن: الناتج القومي 89 مليار دولار (زراعة 5%، صناعة 29%، خدمات 66%)، معدل النمو 3%، العجز في الميزانية 5% من الناتج القومي، معدل التضخم 3%، الأشخاص تحت خط الفقر 14%، احتياطي النقود والذهب 16 مليار دولار.
السودان: الناتج القومي 177 مليار دولار (زراعة 40%، صناعة 3%، وخدمات 57%)، معدل النمو 4.1% ، العجز في الميزانية 11% من الناتج القومي، معدل التضخم 70%، الأشخاص تحت خط الفقر 60%، احتياطي النقد الأجنبي والذهب 198 مليون دولار.

مما يعني من هذه المقارنة أن اقتصاد السودان الأسوأ بين الدول الأربع أعلاه. يجب التفكير العملي المرن مع الواقع الماثل بالتوقف التام عن معالجة عَرَضْ المرض (سعر الدولار)، وإغفال المرض وهو أشبه بمعالجة صداع الملاريا بالأسبرين والبنادول دون إعطاء جرعات الكلوروكوين لمعالجة الملاريا.
التفكير الجاد والشجاع خارج الصندوق هو المخرج العاجل ولفترة حتى تزول الملاريا.
آدم سميث نفسه لا يستطيع حل معضلة الاقتصاد السوداني وهو داخل صندوق الإجراءات الأمنية والسياسات الخارجية الحالية.

تقرير:عمر البكري أبو حراز

الخرطوم (صحيفة آخر لحظة)

اضغط هنا للانضمام لقروبات كوش نيوز على واتساب

قروبات كوش نيوز الإضافية



زر الذهاب إلى الأعلى