آراءأبرز العناوين

ماذا بعد نيالا؟ ضربة جوية غيّرت ميزان الحرب

ما جرى في سماء نيالا الأسبوع الماضي يعتبر تحول استراتيجي اعادة رسم مسار الحرب، عملية استثنائية محدودة دقيقة في توقيتها، واضحة في أهدافها، وحاسمة في رسائلها العسكرية والسياسية.

وفقًا لمعلومات عسكرية خاصة، نفّذ سلاح الجو السوداني ضربة جراحية مكتملة الأركان، استهدفت البنية العصبية لمليشيا الدعم السريع في مدينة نيالا بحرفية عالية. شملت الأهداف منظومات الحماية الجوية، مخازن السلاح والذخيرة، والوقود، ومنصات المسيّرات، ومركز القيادة ، لم تتأثر المباني المحيطة ، في مؤشر واضح على دقة الرصد والانضباط العملياتي.
وهنا يبرز السؤال المنطقي: أين كانت منظومات الدفاع الجوي المتقدمة التي أُنفقت عليها ملايين الدولارات؟ الإجابة تكمن في التفوق التكتيكي لسلاح الجو السوداني، الذي اعتمد استراتيجية الإعماء والتشويش، فعطّل قدرات الرصد، وجعل رد الفعل شبه معدوم. الضربة الأولى استهدفت الرادار الرئيسي في توقيت بالغ الحساسية – الثالثة فجرًا – حيث تكون أطقم الحراسة في أدنى درجات الجاهزية، ثم تبعتها أربع طائرات أخرى لإنجاز المهمة، قبل أن يستعيد الخصم أي قدرة على المقاومة الأرضية.
تكمن خطورة نيالا في أنها، تمثل العقدة اللوجستية والعصبية لولايات دارفور. عبرها تمر إمدادات السلاح والوقود، وخطوط النقل بين دارفور وكردفان. إن تحييد هذا المركز يعني شلّ منظومة كاملة من التجهيزات. بما يعني ، تعطيل خمس ولايات دفعة واحدة، وقطع الشرايين التي تغذي المليشيا في غرب البلاد.
الأثر العسكري المباشر لهذه العملية يتمثل في الشلل اللوجستي. فحين يُعطَّل تدفق الوقود والذخيرة، تتحول أي قوة مسلحة – مهما بلغ حجمها – إلى كيان محدود الحركة، فاقد القدرة على المناورة. ويتضاعف هذا الأثر إذا وُضع في سياق التوقعات الجارية بحسم الجيش لمعركة كردفان، إذ يعني ذلك عمليًا قطع الوصل بين دارفور وعمق السودان، وتحويل قوات المليشيا في الغرب إلى جيوب معزولة تُستنزف بدل أن تُعيد التموضع.
ومن زاوية التوازن الجوي، أكدت ضربة نيالا أن المبادرة والسيطرة من الأعلى باتتا في يد الجيش. هذا التفوق لا يعني الهيمنة التقنية فحسب، بل امتلاك زمام الإيقاع العملياتي. فقدان المليشيا لمظلة الدفاع الجوي ومحطات تشغيل المسيّرات يعني انكشافًا كاملًا، عسكريًا ونفسيًا معًا. وفي الحروب الحديثة، يكفي هذا الانكشاف لمحاصرة الخصم قبل أي تقدم بري.
ولا يقل البعد النفسي للعملية أهمية عن أثرها الميداني. فاستهداف موقع كان يُنظر إليه كقاعدة محصنة يهزّ الثقة داخل صفوف المليشيا، ويقوّض سرديتها عن السيطرة والتمدد. ومع أي تقدم متزامن في كردفان، تنتقل العدوى النفسية سريعًا: من الشك إلى التردد، ثم إلى الانسحاب غير المنظم. عند هذه النقطة، تصبح الخسارة المعنوية أعمق أثرًا من الخسارة المادية.
ما يجري في السودان ليس صراعا عسكريا، بل معركة سيادة مكتملة الأركان. لقد تصدّى الجيش لعدوان معقّد هدفه اختطاف الدولة، وتفكيك مؤسساتها، وتحويلها إلى تابع لأجندات إقليمية. وفي مواجهة هذا العدوان، طوّر الجيش تكتيكاته ، جامعًا بين الصبر الاستراتيجي، والدقة العملياتية، وإدارة معركة طويلة النفس، تأكلت قدرة التمرد وتحييد قياداته الميدانية.
يكتسب هذا التوصيف ثقله حين يُقرأ في ضوء الإقرار الدولي بطبيعة الصراع. فبحسب تصريح المفوض السامي لحقوق الإنسان بالأمم المتحدة، فولكر تورك، فإن “السودان يتعرض لحرب بالوكالة طمعًا في موارده” . هذا الإقرار يضع الحرب في إطارها الحقيقي: صراع سيادة تُستخدم فيه المليشيا كأداة. وفي هذا الامتحان التاريخي، أثبت الجيش السوداني أنه يدافع عن فكرة الدولة ووجودها، لا عن سلطة كما يحاول البعض توصيفها.
واستراتيجيًا، فإن الجمع بين شلّ نيالا وحسم كردفان يعيد رسم خريطة الصراع. فكردفان تمثل القلب الجغرافي الذي يربط الشمال بالغرب والوسط، والسيطرة عليها تمنح الجيش قدرة مناورة متعددة الاتجاهات، وتفرض على الخصم القتال في مساحات مفتوحة بلا عمق لوجستي.
ولا يمكن فصل هذا التحول عن بعده الإقليمي. فتدمير آليات عسكرية ضخمة خلال ساعات قليلة بفعل ضربة دقيقة يعيد حسابات الداعمين الخارجيين. فالدعم لا يستمر حين يفقد جدواه، والحياد يصبح خيارًا مرجحًا حين تميل الكفة بوضوح لصالح الجيش. كما أن رياح المتغيرات الإقليمية التي تهب اليوم في المنطقة ، من المرجح أن تملأ أشرعة الجيش وتُسهم في تغيير معادلة الحرب جذريًا.
إن عملية مطار نيالا، في عمقها السياسي والعسكري، تمثل إعلانًا صريحًا عن تحوّل بنيوي في إدارة الحرب: من صراع يُدار تحت ضغط الفوضى إلى معركة تُصاغ بإرادة الدولة ومنطق السيادة. السودان لم يعد أسير ردّ الفعل أو رهين الاستنزاف، بل بات فاعلًا يصنع الحدث ويضبط إيقاعه، مستندًا إلى تفوق معلوماتي، وتكامل استخباري، وقدرة على تحويل المعلومات إلى فعل ميداني. التكتيكات المعتمدة، تعكس انتقالًا واعيًا هدفه كسر البنية العملياتية والمعنوية للخصم قبل القضاء عليه .
سياسيًا، تمثل هذه اللحظة إعلانًا لانتهاء الفوضى ، إذ يُعاد ترسيم ميزان القوة داخليًا وإقليميًا على أساس منطق الدولة لا منطق المليشيا. وبهذا المعنى، تصبح نيالا نقطة تحول ، بدأ فيها تفكك المشروع المليشياوي من داخله، قبل أن يظهر أثره الميداني على الأرض خلال الأسابيع القادمة.
خلاصة المشهد بحسب #وجه_الحقيقة أن ضربة نيالا ليست نهاية الحرب، لكنها لحظة مفصلية في مسارها. وإذا تزامنت مع حسم فعلي في كردفان، فإن ميزان الصراع لا يميل فقط لصالح الجيش، بل يقترب من نقطة اللاعودة. عندها تنتقل الحرب من مرحلة الاستنزاف المفتوح إلى مرحلة تفكيك التمرد وإنهاء قدرته على الاستمرار، لتصبح النهاية مسألة توقيت.
دمتم بخير وعافية.
وجه الحقيقة | إبراهيم شقلاوي

اضغط هنا للانضمام لقروبات كوش نيوز على واتساب

قروبات كوش نيوز الإضافية



هبة علي

محررة بكوش نيوز تهتم بشتى جوانب الحياة في السودان والاقليم، تكتب في المجال الثقافي والفني، معروفة بأسلوبها السلس والجاذب للقارئ.
زر الذهاب إلى الأعلى