يقترب العام من نهايته، لا بوصفه تاريخًا على الحائط، ولا رقمًا يتبدّل في أعلى الصفحة، بل ككائنٍ خفيفٍ مرّ بجانبنا من دون أن يترك ظلًا واضحًا.
أفكّر في هذه الطقوس التي تعلّمناها، توديع عام واستقبال آخر، كما لو أن الزمن يقف عند العتبة وينتظر تصفيقنا أو دمعتنا أو خطاباتنا الصغيرة المعلّبة. لا أعرف تمامًا ما الذي يعنيه ذلك كلّه. ماذا يعني أن نقول “وداعًا” لشيء لم يكن يومًا كيانًا مستقلًا، ولم يكن سوى امتدادٍ متواصلٍ لحياتنا، سيولة لا يمكن القبض عليها ولا الإشارة إليها بالإصبع؟العام، حين نفكّر فيه بصدق، ليس وحدةً صلبة. هو حزمة أيام غير متساوية، بعضها ثقيل حتى يكاد يكسر الظهر، وبعضها خفيف إلى حدّ النسيان. هو ليالٍ لم نكن نريد لها أن تنتهي، وصباحات تمنّينا لو أننا لم نستيقظ فيها. ومع ذلك نصرّ، كلّما اقتربت نهايته، على اختصاره في جملة، أو منشور، أو رغبة معلّقة بين أمنيتين. كأننا نخاف مواجهة الحقيقة الأبسط؛ أن الزمن لا يلتفت إلينا، وأن المرء هو من يضفي المعنى أو يتركه يتسرّب.تربكني فكرة الاستقبال. استقبال ماذا تحديدًا؟ عام جديد؟ وهل الجديد هنا صفة حقيقية أم مجرّد مجاملة لغوية؟ الأيام القادمة لا تأتي محمّلة بالوعود، بل تأتي فارغة، حيادية، تنتظر أن نملأها بما نملك من شغف أو خيبة أو قدرة على الاحتمال. وحين نبالغ في الاحتفال، أشعر أحيانًا أننا نحاول التستّر على ارتباكنا، وعلى خوفنا من الفراغ وحاجتنا إلى وهم البداية كي نواصل السير.
في نهاية كل عام، يُستدرج المرء إلى محكمة داخلية. أسئلة تتراكم بلا استئذان: ماذا فعلت؟ لماذا أخفقت؟ من خسرت؟ كيف نجوت؟ لكنني لا أثق كثيرًا في هذه المحاكمات الموسمية. الحياة لا تُقاس بدورة تقويم، ولا تُختصر في حصيلة سنوية. بعض التحوّلات يحتاج سنوات كي يُرى، وبعض الجروح لا يظهر أثرها إلا بعد زمن طويل، وبعض النجاحات لا نلتفت إليها لأنها لم تكن صاخبة بما يكفي.
أفكّر في الذاكرة، وكيف تتصرّف بذكاء مريب عند نهاية الأعوام. تنتقي، وتمحو، وتلمّع، وتعيد ترتيب المشاهد بما يناسب قدرتنا على الاستمرار. ليس كل ما عشناه قابلًا للعرض في حفل الختام. هناك تفاصيل صغيرة، غير قابلة للتصنيف، هي في الحقيقة ما شكّل العام فعلًا: مكالمة لم نتوقعها، أو صمت طويل أنقذنا من قول ما نندم عليه، أو كتاب فتح نافذة في لحظة اختناق، أو خيبة علّمتنا كيف نعيد تعريف أنفسنا بلا ضجيج.
ما يقلقني في هذه اللحظة الفاصلة هو الميل إلى اليقين السريع. كأننا نريد أن نعرف مسبقًا ما الذي سنكونه بعد أيام، أو كيف سيكون العام القادم أكثر لطفًا وعدلًا وقابلية للتحمّل. لكن التجربة تقول إن الزمن لا يمنح ضمانات. كل ما يقدّمه هو الاحتمال. والاحتمال، في حدّ ذاته، مسؤولية. مسؤولية أن نعيش بوعي، لا بحسابات وهمية، وأن نخفّف من قسوتنا على أنفسنا حين لا تسير الأمور وفق المخطط.لا أريد أن أودّع عامًا وكأنه عدوّ، ولا أن أستقبل آخر وكأنه منقذ. كلاهما وجهان لحركة واحدة، وأنا في قلب هذه الحركة، أتغيّر من دون إعلان رسمي، فأنضج أحيانًا، وأتعب أحيانًا أكثر. وربما الحكمة الوحيدة الممكنة هي أن نكفّ عن تحميل اللحظات أكثر مما تحتمل، وأن نسمح للزمن أن يكون ما هو عليه؛ مسارًا مفتوحًا، لا قصة مكتملة الفصول.
وحين يقترب العام من نهايته، أشعر بحاجة أقل للكلام، وحاجة أكبر للإنصات. إنصات لما بقي عالقًا في الداخل، لما لم يُقل، لما لم يُفهم بعد. ربما لا يحتاج المرء إلى فكرة كبيرة، ولا إلى أمنية مصقولة، بل إلى صدق هادئ مع الذات، وإلى شجاعة الاعتراف بأننا لا نعرف، وأن هذا الجهل ليس نقصًا، بل مساحة للتعلّم.هكذا، يمرّ العام، من دون أن ألوّح له بيدي، أو أفتح ذراعيّ لعام آخر. يمرّ، كما تمرّ الحياة، خطوة بعد خطوة، وأنا أحاول فقط أن أكون أكثر انتباهًا، أقل ادّعاءً، وأقرب قليلًا إلى المعنى، إن وُجد، أو إلى السؤال، إن كان السؤال هو كل ما نملك.
سعدية مفرح – الشرق القطرية

