يكتسب توقيع مذكرة التفاهم بين وحدة تنفيذ السدود التابعة لوزارة الزراعة والري السودانية والمنظمة العربية للتنمية الزراعية دلالة مهمة تتجاوز حدود التعاون الفني والتنسيق المشترك، ليغدو فعلًا سياسيًا تنمويًا بامتياز في لحظة تفرض فيها أسئلة إعادة الإعمار، وأهمية عودة الدولة إلى أدوارها الأساسية في حماية المجتمع وبناء المؤسسات و الاستقرار.
فقد شملت المذكرة الموقعة بالأمس ،مجالات حصاد المياه، وبناء قدرات الكوادر الفنية والمزارعين، وإعداد الدراسات الفنية والاقتصادية لمشروعات حصاد المياه والري التكميلي. وقّعها عن وحدة السدود مديرها العام الدكتور الحارث مصطفى ، وعن المنظمة العربية للتنمية الزراعية مديرها العام البروفيسور إبراهيم الدخيري، مؤكدين حرص الطرفين على تعظيم الاستفادة من هذه المشروعات بما يسهم في الاستقرار والتنمية.
لا يمكن قراءة هذا التوقيع بمعزل عن السياق الوطني الأوسع، فالمياه في السودان، قضية دولة، ومفتاح استقرار، وحدًّا فاصلًا بين التنمية والهشاشة. السودان بلد المطر الوفير، ومع ذلك ظل عاجزًا عن تحويل هذا الفيض الطبيعي إلى رافعة تنموية. فالأمطار التي يقدر تدرجها من نحو 260 ملم في الوسط إلى أكثر من 800 ملم في الجنوب، تُهدر في معظمها عبر الأودية والخيران، بما يُقدَّر بنحو 440 مليار متر مكعب سنويًا، بينما ينحصر التخطيط العملي في نصيب محدود مياه النيل. هذه المفارقة لا تعكس فقر الموارد، بل غياب الرؤية والإرادة.
في بلد أنهكته الحرب، لا يمكن فصل ملف المياه عن معادلة السلم الاجتماعي، ولا النظر إلى السدود وحصاد المياه بوصفها منشآت خدمية فحسب، بل باعتبارها بنية تحتية للسلام ورافعة قومية لإعادة التوطين.
الحرب أعادت تشكيل الجغرافيا السكانية للسودان، ودفعت ملايين المواطنين إلى النزوح من الريف نحو المدن أو خارج الحدود، تاركين خلفهم أراضيهم ومصادر رزقهم. وفي قلب هذه التحولات القاسية، برز الماء كعامل حاسم في قرار البقاء أو الرحيل. فالريف الذي يفقد قدرته على تأمين المياه يتحول سريعًا إلى بيئة طاردة، بينما يصبح الريف الذي يمتلك مصادر مائية مستقرة نقطة جذب للعودة وإعادة الإعمار.
من هنا فإن إعادة تأهيل مشروعات حصاد المياه والري التكميلي تمثل مدخلًا عمليًا لإعادة بناء العلاقة بين الإنسان والأرض بعد الحرب، وإعادة توزيع السكان على نحو يخفف الضغط عن المدن، ويعيد التوازن الديمغرافي والاقتصادي التنموي.
هجرات السكان و تغير المناخ يزيد من تعقيد هذه المعادلة. فالتقلبات الحادة في معدلات الأمطار، بين فيضانات مدمرة ومواسم جفاف، تجعل من إدارة المياه مسألة سيادية بامتياز. السودان، الذي يقف بكامله تقريبًا تحت الحزام المطري في بعض المواسم، يواجه خطر تحويل هذا المورد الهائل إلى عامل تهديد للبيئة والبنيات إذا غابت الصيانة الوقائية والتخطيط الاستباقي.
انسداد بئر أو انهيار حفير أو فيضان سد صغير مهمل لا يعني خسارة منشأة فحسب، بل خسارة قرى بأكملها، وتوسيع دائرة النزوح، وإعادة إنتاج الهشاشة التي تحاول الدولة تجاوزها في مرحلة ما بعد الحرب.
في هذا السياق، تبرز وحدة السدود كأحد مفاصل الدولة القليلة القادرة على الربط بين الأمن والتنمية. فدورها لا يقتصر على تنفيذ المشروعات، بل يمتد إلى هندسة خيارات الاستقرار طويل الأمد. إعادة الاعتبار لهذه الوحدة، عبر شراكات إقليمية مثل التعاون مع المنظمة العربية للتنمية الزراعية، تعني فتح نافذة لإعادة بناء الثقة في مؤسسات الدولة، وإرسال رسالة واضحة بأن التنمية الحضرية والسكانية من أهم ركائز الاستقرار .
غير أن البنية التحتية وحدها لا تكفي. فمشروعات حصاد المياه، مهما بلغت كفاءتها الهندسية ، تظل هشة دون استثمار موازٍ في بناء القدرات البشرية. الحرب أضعفت الكادر الفني، وقطعت سلاسل التدريب والتأهيل، وأفرغت الريف من الخبرات المحلية التي كانت تدير هذه المنشآت وتحافظ عليها.
من هنا تأتي أهمية ما تضمنته مذكرة التفاهم من تركيز على تدريب العاملين، وبناء قدرات المزارعين، ورفع كفاءة المهندسين والفنيين، بما يحول مشروعات المياه إلى منظومات حية قادرة على الاستدامة.
سياسيًا يمثل الاستثمار في القدرات رسالة مختلفة عن منطق الإغاثة الطارئة. فهو انتقال من معالجة نتائج الحرب إلى معالجة جذورها، عبر تمكين المجتمعات المحلية من إدارة مواردها، وتقليل اعتمادها على الدولة المركزية أو المنظمات الدولية في أبسط مقومات الحياة. هذا التحول يعزز لامركزية التنمية، ويعيد الاعتبار لدور الريف في بناء الدولة.
كما أن الربط بين حصاد المياه والزراعة المطرية والإنتاج الحيواني يفتح أفقًا جديدًا للاقتصاد الريفي. فاستقرار المياه يعني استقرار الزراعة، واستقرار الزراعة يعني فرص عمل، ودخلًا مستدامًا، وقدرة على الصمود في وجه الصدمات. وهذا بدوره يسهم في تقليل دوافع الصراع حول الموارد، ويعيد صياغة العلاقة بين المزارعين والرعاة على أساس التكامل لا النزاع، وهو أحد الشروط الضرورية لإعادة بناء النسيج الاجتماعي.
في مرحلة إعادة الإعمار، لا تُقاس جدية الدولة بعدد الطرق أو المباني التي تُشيَّد، بل بقدرتها على إعادة الحياة إلى الأطراف، وإقناع النازحين بأن العودة ممكنة وآمنة ومجدية اقتصاديًا. الماء هنا هو اللغة الأولى التي تفهمها المجتمعات الريفية. فإذا توفر تبعته الزراعة، ثم الخدمات، ثم الاستقرار. وإذا غاب، تعثرت كل مشاريع الإعمار مهما بلغت كلفتها.
غير أن الرهان الحقيقي يظل على الدولة السودانية . فالسودان يمتلك الأرض، والماء، والعقول، والخبرات، لكنه يفتقد الثقة في مقدراته، والإرادة الصلبة لتحويل الدراسات المتراكمة إلى سياسات نافذة. لا تنمية مستدامة دون استراتيجية وطنية لحصاد مياه الأمطار، ولا استقرار دون إدارة رشيدة للموارد، ولا سلام اجتماعي دون كسر الحلقة التاريخية بين شح المياه والصراع.
من هذا المنظور، وبحسب #وجه_الحقيقية فإن مذكرة التفاهم بين وحدة تنفيذ السدود والمنظمة العربية للتنمية الزراعية تمثل اختبارًا مبكرًا لقدرة الدولة على تحويل الشراكات الإقليمية إلى أدوات لإعادة البناء الوطني. فإما أن تظل الاتفاقيات حبيسة الأدراج، أو تتحول إلى برامج فعلية تعيد الدولة لسؤال التنمية المؤجل، وتضع المياه في قلب مشروع سياسي تنموي يعالج تداعيات الحرب، ويفتح الطريق لعودة السكان إلى الريف، حيث يصبح الماء، مرة أخرى، رمز الحياة لا عنوان الأزمة.
وجه الحقيقة | إبراهيم شقلاوي

