هل اختفت السعادة في عصر الضجيج المادي؟!

في هذا العالم الذي نعيشه ونجده تتنازعه الضغوط المادية وضجيج الحياة، يظل المرء حائراً يبحث عن السعادة ومفهومها الغائب في دهاليز المادية كما يبحث الظمآن عن الماء، فالسعادة ليست فكرة معلّقة في الهواء، بل مفهوم عميق تشكل عبر التاريخ في حضارات متعددة ومعقدة، من بينها الفلسفة الصينية العريقة القديمة ومروراً بالفكر الإسلامي الراسخ وانتهاء بزمان الرأسمالية المتغطرس، وعندما ننظر إلى المفهوم كيف تبدى وتجلى بين سطور الفلسفة الكونفوشية وتأملات الفارابي وابن سينا والغزالي من جهة أخرى، نجد رؤيتين تتقاطعان وتختلفان في آن، تضيئان الطريق لكل باحث عن السلام الداخلي والهناء الدائم.
فترى الفلسفة الصينية – لا سيما الكونفوشيوسية – أن الانشغال بالمصير والماورائيات يرهق النفس ويبدد طاقتها، وأن على الإنسان أن ينشغل بالحاضر وفيما ينفعه، وبما ينبغي فعله خلال سنوات عمره القصيرة، لا بما ينتظره في عالم الغيب فإن ذلك خارج اليد البشرية، لذلك يكون جوهر السعادة عندهم في الاعتدال، وممارسة الأخلاق، والاهتمام بتطوير النفس وتحقيق الخير للآخرين، فالاستقامة، والبرّ، والتعاطف، واحترام آداب المجتمع ليست مجرد فضائل مثالية زائدة، بل هي مفاتيح لسعادة الفرد والمجتمع الذي يعيش فيه.
وتبلغ الفلسفة الصينية ذروتها في فهم السعادة حين تربط بينها وبين السياسة، معتبرة أن الحاكم العادل هو من يُسعد شعبه ويحقق لهم الرفاه، فالمجتمع السعيد إذاً ليس ناتجًا عن رفاهية فردية، بل عن تماسك اجتماعي تُصان فيه القيم البشرية وتُوزع فيه الفرص بعدالة، وفي هذا تبرز أهمية التربية، والتعليم، والموسيقى والفنون، باعتبارها وسائل لتطهير النفس، وبناء السلام الداخلي، وتعزيز الانسجام الجماعي.
وعندما ننظر إلى الفلاسفة الإسلاميين، نجد تصورًا أكثر شمولًا للسعادة، فالفارابي يرى أن السعادة تتمثل في تهذيب النفس، والعيش في مدينة فاضلة تحكمها القوانين والعقل، وأما ابن سينا، فيربط السعادة بالاتصال بالعقل الفعال الذي ينتج، ويجعلها أي السعادة نتيجة لمعرفة الحق الأكبر، ويضيف الغزالي بعدًا روحيًا صافيًا، حيث تكون السعادة في القرب من الله، والرضا بالقدر، وتزكية القلب من الشهوات.
فالفلسفة الإسلامية لا تنكر السعادة الدنيوية، بل تحتفي بها ضمن حدود الاعتدال والفضيلة، لكنها تؤمن بأن السعادة الأسمى هي الأخروية، تلك التي تنبع من الإيمان، واليقين، ومعرفة الغاية الوجودية للإنسان على هذه الأرض، وهنا يختلف التصور الإسلامي عن الصيني في مفهوم السعادة، ففي حين تتجنب الفلسفة الصينية التفكير في الغيب باعتباره عبئًا، ترى الفلسفة الإسلامية أن الغيب هو موطن الطمأنينة، وأن الإيمان بالآخرة يهب الحياة معناها.
ففي المحصلة، سواء أعجبت بدرب كونفوشيوس أو اقتديت بابن سينا، فإن السعادة تظل مشروعًا أخلاقيًا داخليًا ذاتياً في نفسك، لا رفاهًا خارجيًا، فهي تتواجد وتزدهر في تهذيب النفس، ومصالحة الضمير، والعمل للخير لك ومن أجل الآخرين، ولا تكمن في الجري المجنون خلف اللذائذ المؤقتة المادية… فاختر ما يليق بك.
د. جاسم الجزاع – الشرق القطرية