وقد صار القلب أخف!

في اللحظة التي يصدح فيها الأذان للفجر، لا يستيقظ الجسد فقط، بل تصحو معه ذاكرة غائرة في الأعماق، أصوات من رحلوا، ملامحهم، ضحكاتهم، وحتى حكاياهم التي كنا نعتقد أنّها ذابت مع الزمن، تتسلّل فجأة من حيث لا أدري. هم لا يطرقون الباب، لا يستأذنون، بل يأتون في صمت، في خفة، كأنّ الفجر موعدهم، وكأنّ صلاة الفجر فسحتهم المخبأة للعودة إليّ، ولو قليلاً.
أجلس على سجادتي بعد الصلاة، أبقى حتى أشعر بيدٍ خفية توضع على كتفي. لا ألتفت. أعرف هذا الشعور لكنني لا أتحرك لأنني لا أريد أن أربك تلك الطمأنينة التي يصنعها الفجر في روحي.
حين نصلي الفجر، لا نصلي وحدنا. هناك مَن يطمئن علينا، من حيث لا نراهم. لا صوت لهم، فقط أرواحهم تحيط بنا كوشاح من دفء، تهمس في القلب: “نحن هنا.. نراكم، نحبكم، لم نغادركم حقًا.” والمفارقة الجميلة أن تلك الأرواح تعرف الوقت جيدًا. تأتي قبل الصلاة بقليل، وتختفي قبل أن نرفع أيدينا إلى السماء. لا تمنحنا وقتًا كافيًا لنبكي أمامها، كأنها تأبى أن ترى الدموع، أو كأنها تقول إن اللقاء لا يجب أن يُثقل بالحزن.
صلاة الفجر هي الموعد الذي لا يكذب، هي اللحظة التي تخلع فيها الحياة أقنعتها، وتتجلى كما هي. لا شيء يُخفي الروح عن حقيقتها وقت الفجر. حتى الدعاء يكون نقيًا، فوريًا، بلا زخارف. تقول ما تريد دون ترتيب: “يا رب، خذ قلبي إليك، وخفف عني فَقْد من أحب.” تقولها وأنت تعلم أن من تحب قد غاب، لكنه يعود، في هذا الموعد تحديدًا، ليأخذ من حزنك ما يستطيع، ويترك لك من الطمأنينة ما يكفي ليوم آخر.
كل الذين فقدناهم، مهما كانت طريقة الرحيل، يعودون فجراً. لا يتكلّمون، لا يبتسمون، حضورهم يكفي. تفتح عينيك في الضوء الخافت فتشعر بهم، كأن الهواء صار أثقل قليلاً، كأنك لست وحدك. ولأن الفجر زمن النقاء، فإن حضورهم لا يخيفك، بل يربّت على قلبك، لأن أرواحهم تعرف أن الوقت محدود، وأن الطمأنينة التي يزرعونها فيك لا بد أن تكون سريعة وخفيفة.
ما أغرب هذه العلاقة بين الموت والفجر. الفقد والضوء الأول. في لحظة طلوع النهار نافذة صغيرة نطل بها على من تركونا. لا لنسألهم عن شيء، بل لنخبرهم أننا ما زلنا هنا، نحاول، نتذكّر، نصلي وندعو لأجلهم.
في كل ركعة وعد خفي أن لا ننسى، ونظل نذكرهم من دون ضجيج ولا وجع فاضح.
إنها لحظة الصدق النادر، لحظة يكون فيها الحنين طاهراً لا يشوبه غضب ولا احتجاج. مجرّد أمنية أن يكونوا بخير، وأن يكون الله قد لطف بهم كما نرجوه كل يوم. وكل فجر نمرّ به هو رسالة غير مكتوبة، نبعث بها إليهم: “أنتم في القلب، في الدعاء، في تفاصيل الحياة.” وربما كانت الصلاة نفسها هي لغتنا المشتركة معهم الآن، حيث لا رسائل ولا مكالمات، فقط هذا الصمت المقدس الذي نمارسه أمام الله، ويصل صداه إليهم، حيث هم.
ثم، ما أن تنتهي الصلاة، ويبدأ الضوء يتسلل من خلف النوافذ، حتى يبهت كل شيء. كأن الراحلين لا يريدون أن يراهم النهار. يعودون إلى غيابهم الأكيد، بهدوء، كما جاؤوا. يتركون وراءهم قلبًا أكثر اتزانًا، وعينًا رطبة دون أن تفيض. وتبقى الرائحة، رائحة الفجر الذي مرّ عليهم وعليك، وصوت الأذان الذي جمعكم للحظة، ثم مضى. في كل فجر، لا نصلي فقط، بل يعاد ترميمنا من الداخل. في كل ركعة شيء يشبه اللقاء، وشيء يشبه الفقد، وشيء يشبه الرضا. الفجر موعد الأرواح الخفيفة، الوجوه التي لم تنسها قلوبنا، ولم تغب عن ذاكرة الدعاء. هؤلاء الراحلون لا يغيبون فعلًا، بل يختارون أجمل الأوقات ليعودوا. وها هو الفجر مرة أخرى، يفتح لنا بابه، لنلتقيهم في صمت، ونكمل الصلاة، وقد صار القلب أخف.
سعدية مفرح – الشرق القطرية