بخلاف ما اشتهر به العرب قديماً من جودٍ وكرم، إلا أن الأخبار تواردت أن هناك بعض مَن شذَّ عن هذه القاعدة، وكان البخل والشح، وأخبار البخلاء، له باب واسع في حكايات العرب منذ القدم، خصص له الجاحظ كتابه المُعنْوَن: بـ «البخلاء»، ومما ذكر فيه أن بخيلاً نظر في درهم قديم قد تناقل بين الأيدي كثيراً، فوضعه في جرابه وهو يُردِّد: «الآن سوف ترتاح ولا تُضايقك يدٌ بعد اليوم.. الآن ترقد في مثواك الأخير»، وذكر أيضاً أن بخيلاً اشترى إبريقاً وصحناً من الفخار، فقال للفخاري: اكتب عليهما شيئاً، قال له: وماذا أكتب؟ قال البخيل: اكتب على الإبريق: (فمن شرب منه فليس مني)، واكتب على الصحن: (ومن لم يطعمه فإنه مني).
واشتهر من هؤلاء البخلاء أربعة، صنّفهم الأديب المصري بهاء الدين (أو شهاب الدين) أبوالفتح الأبشيهي في كتابه: «المستطرف من كل فنٍ مستظرف» في الأدب والأخبار، بقوله: «بخلاء العرب أربعة، هم الحطيئة، وأبوالأسود الدؤلي، وحميد الأرقط، وخالد بن صفوان».
فالحطيئة هو شاعر مخضرم، أدرك الجاهلية والإسلام، عُرِفَ بسوء أخلاقه، ونفور الناس منه، فكان سليط اللسان، بذيء المنطق، يشتم الناس ويهجوهم بشعره، حتى أنه شتم نفسه ووالديه، وكان فوق ذلك كله بخيلاً شحيحاً، تواردت أخباره على الألسنة؛ يُروى أن ضيفاً نزل بالحطيئة، وهو يرعى غنماً له، وفي يده عصاً، فقال الضيف: يا راعي الغنم ما عندك؟، فأومأ إليه الحطيئة بعصاه، فقال الرجل: إني ضيف، فقال الحطيئة: للضيفان أعددتهما!.ويُقال إن أبوالأسود الدؤلي تصدَّق مرة على سائل بتمرة، فقال له السائل: جعل الله نصيبك من الجنة مثلها.
أما حميد الأرقط، فقد نزل به مرة ضيوف، فأطعمهم تمراً وهجاهم، وذكر أنهم أكلوا التمر بنواه، وله بيت عن البخل يقول فيه:
يلومونني في البخل جهلاً وضلَّةٌ
وللبخل خيرٌ من سؤالِ بخيلِ !!
وأختم بخالد بن صفوان، كان من أفصح العرب في زمانه، عاش في العهدين الأموي والعباسي الأول، عاصر الخليفة عمر بن عبدالعزيز، وهشام بن عبدالملك، وأبوالعباس السفاح، وكان يحظى عند الخلفاء بمكانةٍ عظيمة، كان يعظ الأمراء والملوك، لكنه اشتهر ببخله، ومما يُحكى عنه: إنه يقول للدرهم، إذا دخل عليه: «يا عيار كم تعير وكم تطوف وتطير لأطيلن حبسك، ثم يطرحه في الصندوق ويقفل عليه»، وقيل له مرة: لم لا تنفق ومالك عريض؟ قال: «الدهر أعرض منه».
د. بكري معتوق عساس – جريدة المدينة
