يقولُ الكاتبُ المصريُّ الرَّاحلُ، أحمد خالد توفيق: (مشكلتي أنَّني أحتفظُ بذاكرة الأفيال.. لا أنسى شيئًا على الإطلاق، خاصَّةً إذا ما كان بعيدًا؛ لذلك أكونُ شاهدًا -دائمًا- على ما يُطلق عليه علماءُ النَّفس: «الذَّاكرة المزيَّفة»).. من مقالة نُشرت في 1 مارس 2009م، بعنوان: «ذاكرة الأفيال».يسردُ في المقالة عددًا من المواقف بينه وبين مَن يرى الماضي أجملَ من الحاضر، ولا يضجر من المقارنة بين كلِّ ما يجده في حاضره، مستدعيًا موقفًا، أو شيئًا من الماضي، حتَّى أثناء شربه لكأسٍ من الشَّاهي، فهو يدَّعي أنَّ طعم هذا الشَّاهي الذي بين يديه ويتناوله، ليس كطعم الشَّاهي زمان، بينما يجد «توفيق» الذي يمتلك ذاكرةً قويَّةً كذاكرة الأفيال، أنَّ كلَّ شيءٍ في زماننا أجملُ كثيرًا من الماضي، فلا شيءَ في الماضي يستحقُّ أنْ نتحسَّر عليه، وهو يصف أمثال هؤلاء الذين يتحسَّرُونَ على الماضي في كلِّ موقف، وكلِّ تفصيلٍ أنَّهم أصحابُ «ذاكرةٍ زائفةٍ»، تُزيِّف لهم الحقائق حول الماضي، فلا يرُونَ جمالَ الحاضرِ ورونقه، بل ذاكرتهم زيَّفت الواقع.يقولُ -أيضًا-: «الماضِي كانَ جميلًا، لكنِّي مُصِرٌّ على أنَّه أسوأُ من الحاضر بكثير».
أنا ومَن في جيلي، نَحُنُّ -دائمًا- لكثيرٍ ممَّا افتقدنَاهُ مع عجلة التَّغيير السَّريعة، وكلِّ المستجدَّات التي دخلت حياتنا، صحيحٌ أنَّ معظمنا لا يمتلك ذاكرةَ الفيل، ولا حتَّى ذاكرة النَّملة -النَّملةُ لديها ذاكرةٌ قويَّةٌ- «النَّمل يمكنُ أنْ يتذكَّر الموقع الذي أنزلَ فيه الطَّعام…».كذلك يتميَّز الفيلُ بذاكرةٍ قويَّةٍ تعي الأشياءَ، والأماكنَ لسنواتٍ عديدةٍ، ويستفيدُ من ذاكرته تلك، في الوصولِ إلى موارد المياه في فترات الجفاف، التي تمتدُّ لسنواتٍ في إفريقيا، كذلك لديه حاسَّةُ شمٍّ قويَّة، تُمكِّنه من شمِّ الرِّياح؛ للتعرُّف على مصادر المياه.بقي الإنسانُ الذي يعتبرُه «توفيق» يحمل ذاكرةً زائفةً؛ لأنَّه لا يقنعُ بما بين يديه، بل يكدِّر حنينهُ، واقعهُ؛ لأنَّه لا يرى الواقعَ بكلِّ الوسائل والمتغيِّرات التي وفَّرت له حياةً أسهلَ وأجملَ، يستطيع أنْ يختار ما يشاء من أنواع الشَّاهي ونكهاته، ليس هذا فقط، بل أنواع القهوة، وسهولة الحصول عليها، وتناولها في السيَّارة، والطَّائرة، في العمل، والشَّارع.حتَّى وسائل النَّقل، أصبحت أسرعَ وأسهلَ، وتتوفَّر على قدرٍ كبيرٍ من الأمان.
صحيحٌ لازلنا نتذكَّرُ مناسباتنا في الماضي، ذكَّرتنِي بها إحدَى السيِّدات، وهي تحكي عن الأعياد زمان، عندما كانَ أهلُ الحيِّ الواحد كالأسرةِ الواحدةِ، تشرعُ أبوابَ المنازل أيَّام العيد؛ لاستقبال المهنِّئِين دون قيودٍ.
هل هذه السيَّدة تحملُ «ذاكرةً زائفةً»، ليس كلُّ شيءٍ في الماضِي يمكنُ أنْ تمحُوه الذَّاكرة، أو أنْ تنكرَ جمالَهُ ومتعتَهُ، كما يقولُون: «لكلِّ وقتٍ أذانٌ»، كلنا نَحُنُّ بشكلٍ مَا إلى بعض التَّفاصيل من الماضي، لكنَّ هذا الحنينَ لا يحجبُ عنَّا متعةَ الحاضرِ.
المجتمعُ لم يكن في الماضي جنَّةً ترفرفُ عليه الملائكةُ.. وتُغرِّد فيه البلابلُ، كما يعتقدُ صاحب الذَّاكرة الزَّائفة، فالمجتمعُ في كلِّ زمانٍ يتطوَّر، يتخلَّى عن بعض القِيم، ويكتسب قِيمًا جديدةً، يتخلَّى عن بعض العادات، ويكتسب عاداتٍ جديدةً، هكذا هي الحياة صيرورة؛ لأنَّ المجتمعَ الذي لا يتطوَّر يموت، سُنَّة الحياة.
نحنُ نعيشُ أجملَ العصور والأزمنة، مَن ينكر هذا أُذكِّره بالمعاناةِ التي كان يخوضها للحصول على تجديدِ رخصةٍ، أو بطاقةٍ، أو جوازِ سفرٍ.
نحن -النساء السعوديات- نمتلك ذاكرة النمل، وذاكرة الأفيال، نعرف جيداً ماذا عانينا في الماضي؟ وما حصلنا عليه خلال سنوات قليلة؟ منحنا حقوقاً ظلت النساء تسعى لاكتسابها سنوات طويلة، في لمح البصر قادت المرأة السعودية السيارة، أصبحت المرأة السعودية إنساناً كامل الأهلية، بالتأكيد لن نسمح لذواكرنا بالزيف وتجميل الماضي، حاضرنا أجمل والقادم أحلى وأجمل.
نبيلة حسني محجوب – جريدة المدينة

