حوارات

المفكر والسياسي غسان سلامة: أقول للعرب: يجب أن نستفيق من نعاسنا.. ونسأل: ما مصلحتنا في هذا العالم المتحول؟

وسط عالم يموج بالتحولات السياسية والاقتصادية، وفى ظل الصراعات المتزايدة التي تهز منطقة الشرق الأوسط، التي تعيش واقعًا معقدًا، في ظل عام على حرب الإبادة في قطاع غزة دونما آفاق واضحة لإنهائها، مع تمدد النزاع إلى جنوب لبنان، ووصول أصدائه إلى اليمن والعراق، ثم إيران، نطرح في سلسلتنا «مستقبل الشرق الأوسط» مسارات منطقتنا، عبر حوارات مع نخبة من الساسة والمنظرين والمفكرين والدبلوماسيين الحاليين والسابقين من مختلف الأطراف الإقليمية والدولية، لتقديم رؤاهم مستندين إلى تجارب الماضى ودروس الحاضر، لنستشرف معًا الطريق نحو المستقبل.

وانطلاقًا من جذور الصراع العربى الإسرائيلى، مرورًا بالتدخلات الإقليمية وصعود بعض القوى الجديدة كالفواعل من غير الدول، وتعقد المشهد العربى، نفتح معًا أبواب نقاش مستنير حول الدروس المستفادة من التاريخ وتأثيرها على مستقبل منطقتنا؛ لطرح رؤى وأفكار لاستشراف الغد والدور الحاسم الذي يمكن أن تلعبه الدول العربية إذا ما أعادت إحياء روابط تاريخية في محيطها والدفع نحو استقرار مستدام وتحقيق مصالحها.

تنقسم محاور النقاش إلى جزأين، الأول أسئلة سبعة ثابتة، اعتمدناها بناء على طلب كثير من القراء، تتمركز حول مستقبل المنطقة، أما الثانى فيتضمن أسئلة تتجه نحو مساحات تتناسب مع خلفية الضيف صاحب الحوار، كى يضيف لنا أبعادا أخرى حول الرؤية التي تنتهى إليها الحوارات وصولا إلى كيف يمكن أن يكون للمنطقة مشروعها الخاص، بعيدا عن أي مخططات تستهدفها؟.

«التضاد» دائما هو ما يؤكد المعنى ويوضحه.. وهو أيضًا عنوان شخصية المفكر اللبنانى الكبير غسان سلامة، الذي يقترح حلول السلام على الرغم من كونه ابنا لمنطقة لا تعرف السلام، كما «يُنظر» عن استدامة الهدوء في أماكن الصراع، بينما تكاد دولته تعد سنوات الهدوء منذ تأسيسها.

تدرج سلامة، في مناصب الأمم المتحدة مستشارا لأمينها العام ومبعوثًا في وقت آخر لحل مشكلات إقليمية ودولية عجزت عقول العالم عن حلها، بينما تصعب المهمة على الحكومة التي أصبح أحد أعضائها، ووزيرًا لثقافتها في ظل حرب إقليمية موسعة تشنها إسرائيل، بداية من السابع من أكتوبر ٢٠٢٣ بهدف تغيير وجه الشرق الأوسط.

وغسان سلامة، أيضًا، هو صاحب مؤلفات مرجعية في العلاقات الدولية. آخر كتبه الصادرة ربيع ٢٠٢٤ «إغراء النزوع إلى القوة- الحرب والسلام في القرن الحادى والعشرين» ويلقى فيه، أضواءً كاشفة على مسار العالم للعقود المقبلة.

الرجل الذي خطا نحو العقد الثامن من العمر مع بداية هذه الحرب، يضع في هذا الحوار من سلسلة «الشرق الأوسط» الممتدة على صفحات «المصرى اليوم»، رؤية سياسية مختلفة في ظل عالم متعدد الأقطاب، وحالة عربية ترضى ألد أعدائهم (إسرائيل)، وتضع المنطقة في مصير مجهول، واحتلال موسع تجريه الدولة العبرية لمناطق لم تكن تحلم أن تصل إليها، في ظل إدارة أمريكية جديدة بقيادة ترامب تمضى بالموافقة والدعم والتسليح مهما طلب نتيناهو.

وإلى نص الحوار:

■ مصطلح الشرق الأوسط هو تعبير جغرافى استعمارى.. لكنه صار المصطلح السائد للحديث عن المنطقة التي تضم الدول العربية وإيران وتركيا ودولًا أخرى، وعانت المنطقة على مدار التاريخ من صراعات على خلفيات متعددة؛ تجذرت من مخططات الاستعمار حتى باتت بقعة ملتهبة دائمًا على خريطة العالم.. برأيك كيف ترى واقع المنطقة وأثر التاريخ في هذا الأمر؟

– الأزمة في منطقة الشرق الأوسط تتجلى في عدم توحيد القادة العرب للغة الخطاب عند لقاء الأطراف الخارجية مثل السيد ترامب أو غيره. الورقة الرابحة للأقطاب الدولية تكمن في القدرة على مقابلة الرئيس العربى الأول الذي يقول شيئًا، ثم مقابلة الثانى ليقول عكس ذلك تمامًا، ثم مقابلة الثالث ليقول بحق الاثنين الأولين ما لم يقله مالك في الخمر.

البداية الصحيحة للتعامل الرشيد مع النظام الدولى تتطلب من القادة العرب الحديث بلغة موحدة ومفردات متفق عليها في القضايا الكبرى مثل النزاع العربى الإسرائيلى، والعلاقات مع القوى الدولية، والتعامل مع الأيديولوجية المحيطة بالرئيس الأمريكى. الزيارات والاتفاقيات والاستثمارات ليست ذات جدوى إذا لم يكن هناك موقف عربى موحد. لن يتم سماعنا ولو بعد حين.

المشكلة ليست في إمكانيات الدول العربية، فسواء أكانت مصر التي تضم ١٠٠ مليون نسمة وأكثر، أو السعودية صاحبة مئات الملايين من براميل النفط، لن تصل أي دولة إلى نتيجة إذا تحركت بمفردها. أوروبا تقدم مثالًا واضحًا؛ بريطانيا وفرنسا وهما من أكبر مصدرى السلاح في العالم اعترفتا بعجزهما عن الاستمرار في تطوير صناعة عسكرية مستقلة واتفقتا على التعاون ضمن مشروع متعدد الأقطاب لتعويض غياب الحماية الأمريكية.

■ برز مصطلح «الشرق الأوسط» في كتابات الأمريكى ألفريد ماهان عام ١٩٠٢ قبل أن تتحدث كوندوليزا رايس عن «الشرق الأوسط الجديد»، وهو ما يتردد بقوة حاليًّا في ظل الحرب الإسرائيلية على غزة ولبنان والصراع مع إيران.. كيف ترى ذلك المخطط خاصة بعد فوز ترامب وصعود قوى اليمين في الولايات المتحدة؟

– الحديث عن صعود قوى اليمين في الولايات المتحدة بعد فوز ترامب أمر يحتاج إلى قراءة أعمق؛ فلا أستعمل شخصيًا تعبير اليمين واليسار لأن الساحة الأمريكية معقدة، ولا يمكن تصنيف بايدن مثلًا على أنه يسارى، خاصة فيما يتعلق بملف غزة. نحن أمام أيديولوجيا قومية شوفينية شعبوية، وهى شكل من أشكال اليمين الأيديولوجى، ولكننى أبتعد عن تصنيفات اليمين واليسار لأن هناك أحيانًا تفاهمات بين اليسار واليمين المتطرفين فوق الطاولة وتحتها. الإيديولوجية الطاغية على إدارة جورج بوش الابن كانت تدخلًا متطرفًا لتغيير الأنظمة عبر التدخل العسكرى، بينما الترامبية هي أيديولوجيا يمينية شوفينية منغلقة على المصلحة القومية الأمريكية بشكل ضيق، إلى حد إعادة النظر في التحالفات التقليدية والضغط على الحلفاء لدفع تكاليف الحماية العسكرية، وصولًا إلى فتح حروب اقتصادية وتجارية مع حلفاء مثل كندا والمكسيك وحتى أوروبا.

الخطأ ليس في الإدارات الأمريكية المتعاقبة فقط، بل أيضًا في طريقة تعاملنا معها. لم نستطع مواجهة إدارة بايدن بشكل كافٍ بشأن دعمها غير المشروط لإسرائيل، ولم نتحد بشكل فعال ضد توحشها في قطاع غزة. وقبل ذلك لم نعارض بصرامة كافية تدخلات إدارة جورج بوش الابن التي دمرت الموازين الدقيقة في المنطقة وتسببت في كوارث كبرى مثل حرب العراق. المشكلة ليست جديدة، بل تتكرر في كل مرة؛ إذ نجد أنفسنا عاجزين عن الاستجابة لمصالح شعوبنا وعن توحيد الصف العربى لمواجهة التحولات الدولية.

النموذج الأوروبى يقدم دروسًا يجب أن نتعلم منها؛ أوروبا كانت تحت الحماية الأمريكية وتحتاج إليها، لكنها أدركت أهمية الوحدة والموقف الموحد. بالمقابل، العرب ما زالوا يتعاملون مع التحولات الدولية بشكل منفرد دون رؤية موحدة، مما يجعل من الصعب مواجهة التحديات الكبرى التي تفرضها الساحة الدولية. إذا استمر الوضع على هذا النحو، سنبقى دون مستوى التوقعات والمصالح الحقيقية لشعوبنا.

■ برأيك ماذا تفعل القوى الإقليمية الكبرى في المنطقة إزاء هذه المخططات.. وبالتحديد مصر والسعودية بوصفهما الدولتين الكبيرتين في المنطقة؟

– مع احترامى لمصر صاحبة الـ١٠٠ مليون والسعودية صاحبة المليون برميل بترول، فإن هناك مواجهة أكثر تعقيدًا، فلا اعتقد أن هناك مشروعا حقيقيا لترامب في غزة، ربما هو شعار أطلقه أو أسر له به أحد أعوانه أو أصهاره، فدغدغ حواسه كمقاول عقارى في نيويورك، فتحول الموضوع الفلسطينى بالكامل إلى مشروع عقارى بغض النظر عن الأطر القانونية والحقوق التاريخية لشعب كامل أمام هذا المشروع.

القوى الإقليمية الكبرى في المنطقة، وتحديدًا مصر والسعودية، تواجه تحديات بالغة التعقيد في ظل ما تطرحه إدارة ترامب من شعارات بعيدة كل البعد عن الحلول السياسية الواقعية. ما يطرحه ترامب يبدو وكأنه مشروع عقارى لا يعترف بالأبعاد التاريخية والقانونية والوطنية للقضية الفلسطينية، فالأمر بالنسبة له يتعلق بالأرض فقط دون اعتبار لحقوق السكان التاريخية، وهذا نهج يثير القلق. نتنياهو يردد أصداء تصريحات ترامب دون أي اهتمام بحقوق الشعب الفلسطينى، يتحدث عن الأرض، لكن ما قيمة الأرض دون سكانها؟ هذه الأرض لها أبعاد قانونية وملكية لشعب محدد اسمه «شعب فلسطين»، لكن لا يمكن مقارنة هذه الفكرة بمشروع عربى حقيقى يعيد بناء قطاع غزة ويحترم حقوق السكان.

رغم السلبية الظاهرة لمشروع ترامب، فإن أحد الجوانب الإيجابية النادرة أنه دفع بعض الأطراف العربية إلى التحرك وتحمّل مسؤوليتها، وهذا ما يجب البناء عليه. لا أرى بديلًا حقيقيًا لمشروع عربى شامل، فالمشروع العربى يثبت ملكية الأرض وحقوق الشعب الفلسطينى ولا يساوم عليها، لكنه بحاجة إلى صيغة سياسية وأمنية شاملة تضمن تنفيذ إعادة الإعمار في غزة، وهذا يتطلب دعمًا دوليًا واسعًا حتى لا يتحول المشروع إلى مجرد تخطيط عمرانى بلا مضمون سياسى وأمنى.

على القوى الإقليمية الكبرى، وعلى رأسها مصر والسعودية، بذل جهود دبلوماسية مكثفة لضمان دعم دولى لتكوين قوة متعددة الجنسيات تُشرف على إدارة قطاع غزة أمنيًا وسياسيًا بشكل مؤقت. قد يكون الأسهل تكوين قوة متعددة الجنسيات بموجب تفاهمات بين الدول المعنية، بدلًا من اللجوء إلى مجلس الأمن، حيث قد تعرقل الفيتوهات الدولية تشكيل قوة دولية فعّالة. هذه المهمة تتطلب تنسيقًا دقيقًا لتسمية الدول القادرة والراغبة في تولى هذه المسؤولية، مع ضمان القبول الإسرائيلى بوجود هذه القوات لتجنب تعقيدات إضافية.

■ يغيب أي مشروع عربى موحد تجاه ما يُخطط للمنطقة، خاصة مستهدفات التوسع الإسرائيلى التي ظهرت واضحة في غزة ولبنان وسوريا، والحديث عن نية ضم أراضٍ أخرى على الخريطة العربية هو التوجه الذي ترجمه «ترامب» عند حديثه عن إسرائيل الصغيرة التي يجب أن تتمدد.. كيف يصوغ العرب مشروعهم المواجه لهذه المخططات؟

– لا يجب أخذ تصريحات نتنياهو بشكل سطحى أو بخوف مفرط، فهذه التصريحات تكشف عن أمرين؛ الأول هو أن إسرائيل تمتلك تقدماً تكنولوجياً كبيراً ودعماً أمريكياً وقدرات عسكرية تتيح لها التفوق على الأطراف العربية، فقد شنت هجمات على أهل غزة وجنوب لبنان وجنوب سوريا، واستهدفت مواقع في هذه المناطق بانتظام، مما يؤكد تفوقها العسكرى. نعم، لديها قدرات عسكرية هائلة وتفوق تكنولوجى، ولا شك أننا نحتاج إلى وقت وجهد وموارد ضخمة للوصول إلى مستوى مماثل. لكن هناك فرقا كبيرا بين التفوق العسكرى والقدرة على فرض هيمنة إقليمية طويلة الأمد، فإسرائيل لا تمتلك الموارد الكافية لتحقيق هيمنة مستدامة تُقبل من قبل الأطراف الأخرى. بإمكانها الفوز عسكرياً، ولكن ليس بناء نظام إقليمى حقيقى ما يعنى عدم تغيير الشرق الأوسط.

المشكلة تكمن في أن الوفاق العربى، حين يتحقق كما حدث في مبادرة بيروت عام ٢٠٠٢، لا يتم تنفيذه، وعند فشل التنفيذ تتعمق الخلافات العربية. قمة القاهرة لم تكن استثناءً في هذا السياق. يبقى السؤال الجوهرى: هل قررنا فعلاً إعادة بناء غزة أم لا؟ هذا يتطلب توافر عدد من الشروط الأساسية للنجاح، أبرزها وجود التمويل الكافى، حيث تُقدّر تكلفة إعادة إعمار غزة بما يتراوح بين ٥٥ إلى ٦٠ مليار دولار.

في الوقت الحالى، تواجه أوروبا نفسها أزمة مع تهديدات بوتين، حيث تجد الدول الأوروبية الكبرى مثل فرنسا وألمانيا وبريطانيا نفسها أمام خيار حتمى بإعادة تسليح نفسها بعدما بدأت الولايات المتحدة بتقليص التزاماتها الأمنية تجاه حلفائها، وأصبحت أوروبا منقسمة ما بين جناح يقول إنه سيظل تحت هيمنة أمريكا مهما حصل، وهناك ربما عند أطراف أخرى ولا سيما في الدول الأوروبية الكبرى مثل فرنسا وألمانيا وبريطانيا من يقول لقد آن الأوان لكى نفهم أن من يحمينا منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية أي الولايات المتحدة الأمريكية قررت أن تخذلنا بدءًا بأوكرانيا وانتهاءً بمسائل أخرى فعلينا إذاً أن نبنى نفسنا.

القمة الأوروبية الأخيرة خصصت مبلغاً ضخماً قدره ١٠٠ مليار دولار لتعزيز تسليحها استعداداً لمواجهة محتملة مع روسيا أو دول أخرى، في وقت قد تتخلى فيه الولايات المتحدة عن مسؤولياتها الدفاعية التاريخية. نحن بحاجة إلى قراءة دقيقة للوضع العالمى المتغير بسرعة، والاعتراف بأن القوى الكبرى قد تتفق فيما بينها على حسابنا، كما حدث في أوكرانيا وقد يحدث في ملفات أخرى. يجب أن نستفيق من نعاسنا ونسأل بوضوح: ما مصلحتنا في هذا العالم المتحول؟ وكيف نستفيد من هذا الواقع الجديد؟ وبين عواصم كبرى كنا نراهن على أنها مختلفة فيما بينها مما يجعل أمامنا نوعا من هامش للمناورة فيما بينها، فإذا هي اتفقت فيما بينها يضمحل هامش هذه المناورة من تلقاء نفسه. متى نبدأ نفكر هكذا؟.

■ على مدار التاريخ تلعب مصر أدوارًا رئيسية في المنطقة.. كيف يمكن لها أن تمارسها رغم التحديات المحيطة بهذه الأدوار والاستهداف الدائم لها؟

– على عكس ما يروج الشارع المصرى -وهو على رأسي- لكنه ربما لا ينظر إلى الأمور بالشكل الصحيح، هناك عدد من الأمور حدثت خلال الثلاثين أو الأربعين سنة الماضية، ولم تسفر في الحقيقة عن استعادة مصر لدورها التقليدى أو القديم في الساحة. لكن، وعلى عكس ما يقوله بعض الإخوة المصريين، لم يسرق أحد دور مصر، فدور مصر هو الدور المصرى، ولكن مصر نفسها تخلت عن جزء من هذا الدور القيادى، ولم يتلقفه أحد.

اليوم ليس لدينا تكتل عربى حول دولة معينة، فنحن في حالة من تعدد الآراء في الساحة العربية. كما تتحدث عن تعدد الأقطاب في الساحة الدولية، أستطيع أن أحدثك عن تعدد الرؤى في الساحة العربية. الجميع يسير في طريقه الخاص، وحتى مع وجود الخطة العربية، هناك رفض من حركتى فتح وحماس للتعاطى بشكل كامل معها، فحماس ترفض تسليم السلاح، وفتح لم توافق على جميع بنود الخطة. هذا الموضوع يستحق التوقف عنده والنظر فيه بجدية.

■ كيف تستفيد المنطقة العربية من تجاذبات القوى الكبرى وأحاديث التعددية القطبية العالمية؟.. وكيف تلعب دورًا لصالحها في هذا التنافس الدولى ولا تكون مقدراتها في يد قوة واحدة أضرت بها واستنزفت ثرواتها طوال عقود؟

– تغنى عدد من المثقفين العرب لفترة طويلة بأن العالم لم يعد أحادى القطب بل أصبح متعدد الأقطاب، فصفقنا وقلنا هذا يمنحنا هامش مناورة، فأسوأ من أحادية القطب هو تعددية الأقطاب إذا كانت هذه الأقطاب متفاهمة فيما بينها. ما نراه اليوم من تفاهم بين بوتين وترامب أمر يجب أن يثير قلقنا، وليس أن نفرح به، فهى ستتفاهم على حسابك، فعليك أن تفتح عينيك وتفكر بما تفعله.

الدول العربية تناولت المواضيع الأساسية بطرق مختلفة، خذ على سبيل المثال موضوع الاعتراف والتطبيع مع إسرائيل. لديك حاليًا حالات من التطبيع الحار، والتطبيع البارد، والتطبيع السرى، والتطبيع غير المعلن، والاستمرار في المقاطعة. ٢٢ دولة عربية ولم تتفق منها دولتان على نفس العلاقة تجاه الموضوع الإسرائيلى الفلسطينى، كل دولة لها موقف مختلف.

انظر إلى العلاقة مع أمريكا، هناك دول تستجدى حماية الأمريكان، وهناك دول تدير ظهرها للأمريكان، وهناك دول تصلى يوميًا ألا يتذكر الأمريكان وجودها، وهناك دول بالعكس تسعى لجذب انتباه الأمريكان إليها. في كل القضايا الموجودة حاليًا على الساحة، أعطيتك مثالين، ويمكننى إعطاؤك أمثلة أخرى، لكن التفاهم العربى بالحد الأدنى، غير موجود بالفعل.

■ لو قدر لك أن ترسم صورة المستقبل لهذه المنطقة في ظل الصراعات الحالية والمخاطر المحيطة بها.. كيف ترى هذه السيناريوهات تفصيلًا؟

– هنا الموضوع لا علاقة له كثيرًا بالتضامن العربى، ولكننى أتحدث عن تعدد الآراء العربية الذي يجعل من جامعة الدول العربية عنوانًا غير فعال، وهذا ما يؤلمنى عندما أقارنه بما حصل في المفوضية الأوروبية مؤخرًا. أتمنى أن يدعو الأمين العام لجامعة الدول العربية، غدًا، إلى اجتماع في القاهرة لبناء صناعة عسكرية عربية موحدة.

وأتذكر قبل عشرين عامًا، عندما اقتحمت معرض فرانكفورت للكتاب، وهو أعظم معرض في العالم، وخصص للثقافة العربية، كانت خيبتى كبيرة عندما وجدت أن الدول العربية شاركت فيه كما لو كانت مسابقة جمال، فبدلًا من التركيز على وحدة الثقافة العربية وعظمتها، تنافست الدول على إبراز مفاتنها بشكل فردى.

لا يمكننا الاستمرار بهذه الطريقة، ولا يجب أن نتفاجأ عندما يعاملنا العالم على أساس تفرقنا. نحن متفرقون بالفعل ولا نثبت أن هناك قاعدة صلبة للتفاهم كأطراف عربية، فكيف يمكن للآخرين أن يتعاملوا معنا ككتلة واحدة؟ سيأخذوننا فرادى بالتأكيد.

فيما يخص الموضوع الأساسى، أرى أن غزة هي القضية الأهم. إذا تمكنا من إيجاد إدارة عربية مرحلية لغزة، ربما بدعم من بعض الدول الأخرى، ولكن بإدارة عربية مقبولة، فإن ذلك سيسهم في التأكيد على وحدة الشعب الفلسطينى وعلى خصوصية وضع غزة ضمن إطار وحدة الشعب الفلسطينى. هذا أمر في غاية الأهمية، وبدعم عربى مشترك سنثبت للعالم أننا لم نتخلَ عن هذا الجزء العزيز من الأرض العربية.

ثم هناك موضوع إعادة الإعمار، فإذا ساهمنا في إعادة إعمار لبنان بعد الحرب الإسرائيلية عليه وساعدنا في عودة النازحين السوريين، سنخفف عن دول مثل الأردن ولبنان عبء الوجود الثقيل للنازحين على اقتصاداتها الهشة، وسنساعد هؤلاء النازحين في العودة إلى بلادهم تحت سقف يحميهم. هذا أيضًا تعبير عن رشد عربى نفتقده حتى الآن في التعامل مع الحروب التي تركت دمارًا هائلًا في فلسطين ولبنان وسوريا.

هذا أمر يمكن لدول النفط أن تؤمنه، فهو ليس رقمًا خياليًا، ولكن دول الشرق الأدنى حاليًا مدمرة. إلى جانب كلفة غزة، هناك كلفة بدأت تتضح في الضفة الغربية، خاصة في جنين وطولكرم، وكلفة إعادة بناء لبنان تقدر بين ١٢ إلى ١٥ مليار دولار، بينما إعادة بناء سوريا تتراوح بين ١٣٠ و١٥٠ مليار دولار، مع وجود أكثر من خمسة ملايين نازح سورى بلا مأوى إذا قرروا العودة.

إجمالى فاتورة إعادة إعمار فلسطين ولبنان وسوريا يتجاوز حاليًا ٢٠٠ إلى ٢٥٠ مليار دولار. من أين ستأتى هذه الأموال؟ وبأى وتيرة؟ وما استعدادات الدول النفطية لإنفاق هذا الرقم الكبير؟ وما استعدادات الدول الغربية للإسهام بينما الولايات المتحدة تضع شروطًا قاسية على سوريا ولبنان؟

أما الشرط الثانى المهم فهو وجود بنية سياسية وإدارية لإدارة القطاع بينما عملية البناء جارية. ولا أعتقد أنه يمكننى تصديق كل ما أسمع، فالموضوع لم يُحل بعد. أي قوة ستفرض الأمن في القطاع؟ وبأى شرعية؟ وبأى أدوات داخلية؟ وكل ذلك خلال مرحلة إعادة البناء التي قد تمتد من ٥ إلى ١٠ سنوات.

ثم هناك سؤال آخر، هل تخلى الأمريكيون بالفعل عن فكرتهم الجنونية بتحويل غزة إلى كيان غير عربى؟ يجب أن نكون واقعيين فيما ننظر إليه. الطفل الفلسطينى يحتاج إلى سقف يحميه في الشتاء المقبل، والسؤال هو: هل ستكون حمية العرب كافية لتأمين ذلك السقف؟.

حوار: المصري اليوم

اضغط هنا للانضمام لقروبات كوش نيوز على واتساب

قروبات كوش نيوز الإضافية



اسماء عثمان

محررة مسؤولة عن تغطية الأحداث الاجتماعية والثقافية، ، تغطي القضايا الاجتماعية والتعليمية مع اهتمام خاص بقضايا الأطفال والشباب.
زر الذهاب إلى الأعلى