ليست كل نفسٍ ذائقة الحياة!

من أجل الإدراكات أن نعي أن النضج ليس حصاد أعوامٍ تراكمت على تقاويمِ العمر، ولا عدّا للحظات تسابقت للرصد في تاريخ الحياة، بل هو نبوغُ الروحِ حين تعبرُ صمتَ التجارب وتخرجُ منها بوميض الإدراك الحقّ، والمعرفة البيّنة.
فنحن لا نكبُر بتوالي تكرارات إشراقات الشمس على ملامحنا، ولا نشيخ بتتابع أفول الليالي على أحلامنا، بل نُعمّر لأننا نعيش انهزامات تترك فينا ندوباً ناطقة، وجروحاً نازفة، ونسجد في محاريب الألم حتى يُورق فينا وعيٌ لم يولد بعد في قلوب الغافلين، فكل سقطةٍ تعلمنا كيف ننهضُ بكرامة، وكل خسارةٍ هي مهد بصيرةٍ جديدة، وفطنة مُبتكرة.
نحن نعيش حقاً عندما نعاصر اللحظات بحلوها ومرها، ونورق فعلاً مع توالي دهشاتنا التي تكاد تنطق حيرتنا، ونركب موجة الفرح تارةً، ونسقط في غياهب الألم تارات أخرى.. فنكون أبناء التجربة، لا أبناء الرفاه !
ومَن لم يذق مرارة السقوط، وينغمس في حلو الحياة ومرها لن يتعلم لذة الصعود، فالنضج ليس صنيعة الأزمان، ولا نتاج تكرار الأيام، بل هو فوز من يشتبكون مع الحياة، ويتفاعلون مع أحداثها، ممن يتلوثون بترابها، ويتطهرون بالحكمة التي تهطل بعد العواصف.
النضجُ ليس وقارَ الشعرِ الأبيض، والفوز بعدد الأيام، مقابل خواء اللحظات، ورتابة الأحداث، بل هو إشراقُ البصيرة حين تخفت ضوضاء الدنيا، وتسمع النفسُ صوتها أخيراً.
فلا أصدق من وصيةٍ تُنبئنا أن نمشي في دروب التجربة، ونملأ راحتينا من ندى الانكسار، ونغوص في أغوار عذب الشعور، فالحياة لم تُوجد لتُعاش بلُطفٍ فحسب، ولا لنتنعم بسعد أوقاتها ووفرة عطاءاتها فقط، بل خُلقت الحياة لتُحتضن بشغف، حتى وإن نزفت منها الأرواح، وعلت منها الآهات !
* لحظة إدراك:
الحياة لم تُخلق لتكون مجرد مرور هادئ، ووجود ساكن محدود، بل مساحة نُمنح فيها حرية التجرِبة والتشكُّل، هي ساحة غنية بالتجارب التي تصقل أرواحنا لنُجرّب، نخطئ، نندهش، ونتحوّل.
فأن تعيش لا يعني أن تكتفي بالبقاء على قيد الحياة، أو أن تتجنب التجربة، بل أن تخوض غمارها وتعبر من خلالها.
كما قيل: (واعلم أن كل نفسٍ ذائقة الموت، ولكن ليست كل نفسٍ ذائقة الحياة).
خولة البوعينين – الشرق القطرية