«قطايف» عندما يلقن سامح حسين صناع المحتوى درساً قاسياً

في وقت باتت فيه البرامج التليفزيونية استعراضًا للسطحية والمبالغات المبتذلة، جاء برنامج “قطايف” ليقلب المعادلة ويقدم نموذجًا مختلفًا يعيد للإعلام قيمته الحقيقية. في ظل سباق محموم على جذب الانتباه بأي وسيلة، حتى لو كانت عبر إثارة الفضائح أو استغلال المشاعر، أثبت سامح حسين أن النجاح لا يحتاج إلى بهرجة زائفة أو إنفاق ضخم، بل إلى فكرة صادقة تخاطب العقول والقلوب. لم يكن البرنامج مجرد تجربة عابرة، بل رسالة واضحة لصناع المحتوى الإعلامي في مصر، الذين ينفقون الملايين على برامج لا تحمل سوى الضجيج الفارغ، متجاهلين أن الجمهور لا يزال يبحث عن محتوى يحترم ذكاءه ويضيف إليه شيئًا ذا قيمة.
في زمن أصبحت فيه البرامج الحوارية أشبه بحلبات مصارعة، حيث يتنافس الضيوف على إهانة بعضهم البعض، وأصبحت برامج المقالب تزداد عنفًا وإذلالًا لضيوفها من أجل تحقيق الترند، جاء “قطايف” ليعيد الأمور إلى نصابها وليؤكد أن الإعلام ليس مجرد تجارة بل مسؤولية.
لم يكن نجاح “قطايف” مجرد مصادفة، بل كان نتيجة مباشرة لذكاء تقديمه وعمق رسالته وبساطة أسلوبه. سامح حسين، الذي اشتهر بأدواره الكوميدية، قرر أن يخوض تجربة جديدة، لكنه لم يسقط في فخ التكرار أو التقليدية. لم يحاول أن يكون خطيبًا متكلفًا ولم يتقمص دور الواعظ، بل اختار أن يكون حكيمًا يسرد الحكايات بطريقة تجذب المشاهد دون أن يشعره بأنه يُفرض عليه درس أخلاقي مباشر. كانت كل حلقة تتناول قيمة إنسانية أو مفهومًا أخلاقيًا، لكن دون أن تكون هذه القيم مجرد شعارات مكررة. لم يعتمد على السرد المباشر، بل كان هناك بناء درامي يجعل المشاهد يتفاعل مع القصة وكأنه يعيش تفاصيلها. لم يكن البرنامج بحاجة إلى ديكورات ضخمة أو مؤثرات بصرية مبالغ فيها، بل اعتمد على الفكرة وحدها، وكان ذلك كافيًا ليحصد النجاح في زمن تسيطر فيه السطحية على معظم الإنتاجات التلفزيونية.
في المقابل، لا يمكن تجاهل الفارق الهائل بين “قطايف” وبين البرامج التي تُنفق عليها الملايين لكنها لا تقدم للمشاهد سوى التفاهة والإثارة الرخيصة. يكفي أن نلقي نظرة على بعض البرامج الحوارية التي تحولت إلى منصات لنشر الفضائح، حيث يجلس المذيع أو المذيعة في انتظار زلة لسان من الضيف ليبني عليها حلقة كاملة ويشعل بها مواقع التواصل الاجتماعي. أصبح الهدف هو الترند وليس المحتوى، أما برامج المقالب فقد وصلت إلى مستوى غير مسبوق من الابتذال، حيث يُهان الضيف علنًا وتُصنع له مواقف محرجة فقط من أجل إضحاك الجمهور، دون أي اعتبار لإنسانيته أو كرامته. هذا النوع من البرامج يكشف عن أزمة حقيقية في صناعة المحتوى، حيث بات الرهان على استغلال ضعف الناس وانتهاك خصوصياتهم وجعلهم مادة للسخرية، وكأن الجمهور لا يستحق محتوى يحترم عقله. وعلى الجانب الآخر، هناك البرامج الترفيهية ذات الإنتاج الضخم التي تعتمد على الإبهار البصري ولكنها تفتقر إلى الجوهر الحقيقي. يتم إنفاق الملايين على ديكورات فاخرة وأزياء باهظة وإضاءات ساحرة، لكن النتيجة النهائية تكون مجرد استعراض بلا روح ورسالة ضائعة وسط الزحام.
في مقابل هذا الضجيج الإعلامي، جاء “قطايف” كعمل هادئ بسيط لكنه بالغ التأثير. لم يعتمد على ديكورات ضخمة، ولم يستخدم تقنيات بصرية مبهرة، بل اعتمد على المضمون وحده. كانت الحكايات التي يرويها سامح حسين كفيلة بجذب انتباه المشاهد دون الحاجة إلى أي مؤثرات إضافية. اختيار الموسيقى المصاحبة للحلقات كان عاملًا مهمًا في تعزيز الجو العام للبرنامج، حيث كانت الخلفيات الموسيقية هادئة ومتناسقة مع طبيعة السرد، مما جعل التجربة البصرية والسمعية أكثر تكاملًا. زوايا التصوير كانت بسيطة لكنها مدروسة، فكل تفصيلة في البرنامج خضعت لحسابات دقيقة جعلته يصل إلى المشاهد بأفضل صورة ممكنة.
ما يميز “قطايف” ليس فقط تأثيره المباشر على المشاهد، بل أيضًا التفاعل الذي أثاره بين الناس. لم يكن الجمهور مجرد متلقٍ سلبي، بل وجد نفسه شريكًا في الحكايات التي يرويها سامح حسين. مواقع التواصل الاجتماعي شهدت نقاشات مطولة حول مضمون الحلقات، ووجد كثيرون في البرنامج فرصة للتفكير في القيم التي كادوا ينسونها وسط زحام الحياة. أما على المستوى النقدي، فقد لاقى البرنامج إشادة واسعة، ليس فقط لأنه قدم نموذجًا مختلفًا، بل لأنه نجح في تحقيق المعادلة الصعبة: تقديم محتوى راقٍ دون أن يكون مملًا، وتقديم رسالة هادفة دون أن يكون مباشرًا في وعظه. إشادة الرئيس عبد الفتاح السيسي بالبرنامج كانت تأكيدًا على أن هناك حاجة حقيقية لهذا النوع من المحتوى الذي يجمع بين الفكر والترفيه، ويقدم نموذجًا لما يجب أن يكون عليه الإعلام الهادف.
من خلال “قطايف”، وجه سامح حسين رسالة قوية إلى صناع الإعلام في مصر: النجاح لا يقاس بحجم الإنتاج، بل بجودة الفكرة. يمكن لبرنامج بسيط أن يكون أكثر تأثيرًا من إنتاج ضخم يُنفق عليه الملايين، الأهم هو أن يحمل العمل رؤية واضحة، لا أن يكون مجرد استعراض بصري بلا معنى. “قطايف” لم يكن مجرد تجربة عابرة، بل كان نموذجًا يجب أن يُحتذى به في زمن أصبحت فيه الشاشة مزدحمة بالبرامج التي تعتمد على الإثارة الرخيصة. جاء هذا البرنامج ليؤكد أن المحتوى الجيد لا يحتاج إلى صخب، بل إلى صدق. لم يكن سامح حسين مجرد مقدم للبرنامج، بل كان صانعًا لحالة ثقافية أعادت التذكير بأن الإعلام ليس مجرد أداة للترفيه، بل يمكن أن يكون قوة تغيير حقيقية.
في النهاية، يبقى “قطايف” علامة فارقة في المشهد الإعلامي، ودليلًا على أن الجمهور ما زال يبحث عن المحتوى الجيد حتى لو حاول البعض إغراقه بالتفاهات. ويبقى السؤال: هل سيتعلم صناع المحتوى هذا الدرس القاسي، أم سيواصلون الرهان على الضجيج الفارغ؟
د. داليا المتبولي – بوابة روز اليوسف