موز!

خلال هذا الشهر الفضيل؛ نكتشف روائع النعم التي قد لا نعطها حقها من التأمل، وفي عالم الغذاء؛ يحتل الموز مكانة تستحق وقفات كثيرة.. لا يخفى على الجميع روائع المعصوب، والكنافة، والمطبق بالموز في جميع أوقات السنة، ولكن في رمضان الكريم لهم مكانة خاصة.. وحتى الموز العادي له مكانة مميزة لدى الجميع، والأرقام تعكس أهميته، فقد أكلتُ شخصياً حوالى أربعين موزة خلال العام الماضي، وهذه الكمية تقل عن المتوسط العالمي الذي يقدر بحوالى ثمانين موزة للفرد سنويا.. وهو معنا دائماً، ففي الغالب أنه هو أول فاكهة يأكلها معظم البشر في الصغر.. وفي الغالب أيضاً أنها آخر فاكهة يأكلها الناس في الكبر.. وذلك بسبب طعمه اللذيذ، وفوائده الغذائية الهائلة، وسهولة أكله، لأنه خالي من البذور، ويتميز أيضاً بسهولة الهضم، وبتوفره في كل مكان، وبسعره المنخفض.. وفضلاً تأمَّل في روائع حجمه، ولونه من الخارج والداخل، ورائحته، وملمسه، وخصائصه المشتركة في كل مكان.. الموزة في مكة المكرمة لا تختلف عن الموزة في مانيلا، أو لندن، أو أجادوجو.. وتأمَّل أيضاً في إعجاز تغليف الموز، فهو من أنظف المأكولات على الإطلاق.. ولنقف لحظة هنا في موضوع التغليف: معظم السلع التي نستهلكها تترك بصمة بيئة ملحوظة، وتنعكس في تحديات تراكم القمائم.. وأما فضلات الموز فيمكن الاستفادة منها بذكاء.. بعض الدول مثل الهند مثلاً تستفيد من قشر الموز بتحويله إلى منتجات ورقية لصناعة الصحون، وأكياس الشاي، والمحارم، وغيرها.ومن عجائب الموز نجد جوانبه السياسية، فقبل حوالى مائة سنة تكونت شركات فاكهة متخصصة في عالم الموز.. بدأت بالتخصص في نقله لمسافات طويلة على متن سفن مجهزة بالثلاجات العملاقة، وكانت الأولى من نوعها.. ثم توغلت في زراعته، فاشترت كميات هائلة من الأراضي في أمريكا الوسطى؛ للتحكم في سلاسل الإمدادات بتقليص التكاليف، وعرض كميات هائلة.. وحققت ما يُشبه المعجزات، لأنها نجحت في زراعة كميات كبيرة منه، ونقله عبر آلاف الكيلومترات للمستهلكين بتكلفة منخفضة.. وتطور الموضوع، فأصبحت شركات الفاكهة أشبه بالدول المستعمرة للبلدان الغلبانة.. ومارست بعضها سياسات قمعية، وقسوة على تلك البلدان.. وعندما كانت تشعر بالمخاطر على مصالحها، كانت تتهم مصادر أية اعتراضات في تلك الدول بالتحالفات اليسارية المتطرفة.. وهنا تدخلت قوات بعض الدول العظمى لتغيير تلك الأنظمة، ودعمت حكومات تخدم سياسات شركات الفاكهة.. ومن هنا وُلِدَ مصطلح «جمهوريات الموز».. وفتح صفحة جديدة في مفهوم الاستعمار.. ولمن يراجع تاريخ دول مثل «جواتيمالا»، و»هندوراس»، و»إكوادور»، و»كوستاريكا»، و»بنما» وعلاقاتها بشركات الفواكه، سيجد بعض الأحداث السياسية العجيبة.وأخيراً، فإن الاعتماد على النوع الواحد من المحصول، يُعرِّضه لمخاطر ضعف المقاومة للأوبئة، بسبب عدم تنوع الجينات الوراثية، كما هو الحال في عالم الكائنات.. جدير بالذكر أن الموز الذي غزى العالم قبل ثمانين سنة؛ كان يختلف تماماً عن ذلك الذي نعرفه اليوم.. كان أكبر حجماً، وكانت نكهته أقوى، وطعمه ألذ.. وكان يطلق عليه اسم «جرو ميشيل»، يعني ميخائيل «الفطحل».. وفي مطلع الستينيات الميلادية، تعرَّض لوباء «الباناما»، فتلاشت أعداده، واختفى من معظم الأسواق، وحل مكانه موز «كافندش»، الذي تم تطويره في بريطانيا بعيداً عن بيئة زراعة هذه الفاكهة حول العالم.. واليوم تجري مجموعة من المعامل حول العالم، وبالذات في أوروبا، الأبحاث العلمية الجادة لمحاولة مواجهة مخاطر الهجوم على الموز من الأوبئة.* أمنيـــــة:
الحمد لله أن الموز يُزرع في أراضي الوطن بنجاح، وبالذات في جازان الجميلة، حيث توجد حوالى مليون شجرة.. أتمنى أن نتذكَّر أن كل النعم حولنا وراءها حكايات ودروس تستحق وقفات تأمُّل، وشُكر لله عز وجل، وهو من وراء القصد.
طارق علي فدعق – جريدة المدينة