المنطق أو الفطرة.. كلاهما مرادف لجوهر الإسلام

كتاب تتلاحق فيه كلمات مؤلفه من أجل الإجابة على سؤال وجهته إليه ابنته يوماً، ولم يكن يتجاوز الأربع كلمات حينها: “لماذا اخترت الإسلام يا أبي؟”. إنه د. جيفري لانج، عالم الرياضيات. ولد عام 1954 لأسرة أمريكية متدينة تعتنق النصرانية، وتابع تحصيله الدراسي حتى حصل على درجة الدكتوراه، وانخرط في سلك التدريس بعدها، وكان قد هجر الكنيسة واختار الإلحاد!
يُسهب البروفيسور وهو يتحدث عن رحلته من الكاثوليكية إلى الإلحاد انتهاءً بالإسلام، حين لم تجب الكاثوليكية على أسئلته وهو العالم الذي أسس عقله على بنيان من المنطق والبرهان، حتى أهدت إليه إحدى الأسر المسلمة القرآن الكريم، حيث بدأ (صراعه الحقيقي) ورحلة نحو الإيمان لم تكن هينة على الإطلاق! وفي لفتة راقية وبخط ديواني أنيق، يهدي البروفيسور إلى (بناته المؤمنات: جميلة وسارة وفاتن) كتابه (الصراع من أجل الإيمان: انطباعات أمريكي اعتنق الإسلام)، والذي قسّم حديثه فيه بين (النطق بالشهادة، القرآن، رسول الله، الأمة، أهل الكتاب).
ابتداءً، يسترجع البروفيسور حلماً تكرر معه حين كان يافعاً، وهو أداؤه للصلاة في مسجد يقبع أسفل درج، ويشع النور من كوة بداخله، ضمن مجموعة ينحنون فوق سجادها الأحمر، في وقت لم يكن قد عرف المسجد ولا الإسلام بعد، حتى أتت رؤياه كفلق الصبح بعد أمد، وبعد يومين فقط من إسلامه، لدرجة شعر فيها أنه نائم متلبس في حلمه من جديد، أعقبتها برودة سرت في جسده كله، فرجفة، ثم انتهت بدفء النور والدموع.. في أعجب ما يمكن تصوره عن مدارج الروح، وهي من أمر الله. وكمسلم مستجد، يبتكر طريقة عملية في التنبيه لصلاة الفجر، وقد وجد مشقة فيها رغم استشعاره أهمية فريضة الصلاة عموماً، وما تستجلب للمرء من عون وراحة، تمثلت في الاستعانة بثلاثة منبهات موزعة على أماكن متباعدة في مسكنه، ومضبوطة بمواقيت متسلسلة مع فارق قصير بينها. يقول عنها: “صلاة الفجر بالنسبة لي هي احد أجمل الشعائر الإسلامية وأكثرها إثارة. هناك شيء خفي في النهوض ليلاً -بينما الجميع نائم- لتسمع موسيقى القرآن تملأ سكون الليل. تشعر وكأنك تغادر هذا العالم وتسافر مع الملائكة لتمجد الله بالمديح عند الفجر”. وفي حين حرص على صلوات العتمة في جماعة حيث (الجهرية)، فهو لم يكن قادراً على فهم ما يسمع، غير أن ما يسمع كان مريحاً، كالطفل يرتاح لصوت أمه وهو لا يفهم كلماتها. وكذلك كان “صوت” الصلاة الجهرية، وقد تمنى أن يعيش أبداً تحت حماية صوتها.
وفي حديثه عن القرآن الكريم، يعتقد أن (اقرأ) كأمر إلهي، نعمة سماوية في تعلم القراءة، وعن طغيان الإنسان واستغنائه في منتصف السورة، يعتقد أن العلم الحديث صوّر للإنسان من عظيم الشأن ما أغناه عن الله، غير أن تلك العلوم وما حملته من فكر تأبى إلا أن تتفق مع ما ورد في القرآن، الأمر الذي دعا أصحاب تلك العلوم إلى اعتناق الدين الذي جاء به. ثم يتحدث عن الإعجاز القرآني في اختصاص أنثى النحل بإنتاج العسل (وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ)، وعن منهج (التجربة والخطأ) نحو العمل وارتكاب الخطأ وإدراكه والتسامي عليه والتقدم والاستمرار (إِلَّا مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَٰئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ ۗ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا)، ثم يبكي في (الضحى) بكاء الطفل المفقود بعد عودته لأمه استشعاراً لقرب الله الذي لا يتخلى عمّن بحث عنه (وَالضُّحَى وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولَى وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى). ثم يتطرق إلى مناقشة بعض الآيات القرآنية المثيرة للجدل عند الغرب، وينظر بمفهوم آخر لبعض الأحاديث النبوية كحديث (فتنة النساء) بعيداً عن المعنى الحرفي وإيعازه إلى أمور حسية صرفة! فيرى أنها على الأرجح فتنة للرجال في ميلهم نحو ظلم المرأة واحتقارها لضعف يرونه فيها، ويضرب أمثلة لتلك الفتنة في مسألة الطلاق ومضرة الوالدة بولدها.
وفي مناصرته للقضية الفلسطينية، يعود للتاريخ ليقول: “يتفق المؤرخون على أن الغالبية العظمى من العرب الفلسطينيين لم يقدموا إلى فلسطين مع الفتح الإسلامي، بل إن هؤلاء هم بشكل رئيسي أبناء الساميين الذين تعود ملكيتهم لفلسطين لثلاثة آلاف عام على الأقل قبل الميلاد، وقد تكون هذه هي أبسط فترة ملكية في العالم وأطولها. أما العبرانيون القدماء فقد جاءوا إلى فلسطين بعد ذلك بكثير، وذلك بحوالي ألف وأربعمائة عام قبل الميلاد”. ثم يتساءل في مبحثه ويجيب: “هل لليهود حق أخلاقي-ديني في فلسطين؟”.
وأختم بما جاء على لسانه في لغة صوفية قلّما يسوقها الرياضيون: “ومع ذلك فإني مدرك دوماً أن لي نقاط ضعفي وتقصيري! إنني أعلم الآن أنني إذا ما فقدت الله ثانية فإنني بالتأكيد سوف أفقد كل شيء، وإني أدعو مع رابعة العدوية: (إلهي هل صحيح أنك سوف تُحرق قلباً يحبك كثيراً)، وإني أجد عزاءً في جوابها”.
مها الغيث – الشرق القطرية