«الإسكندرية» الجميلة التي تغفو بين أحضان التاريخ

طالما أخذتنى قدماى إلى تلك المدينة الساحرة، بدافع المشاركة فى الندوات الثقافية مرة، وبدافع التسلل إلى التاريخ البعيد مرات ومرات..هكذا تعودت أن أسافر إلى الإسكندرية كلما واتتنى الفرصة، أقرأ فى تاريخها الزاخر بالأحداث والحُكام والحضارات المختلفة، لأضع قائمة بالأماكن التى تستحق الزيارة، وما أكثرها!.
لا أنكر أن وجه المدينة قد تغير، مثلما تغيرت كل الأشياء، فالزمان والمكان تبدلان، فلم تعد الأشياء فى نصابها القديم ولا عادت الأيام كما كانت.. إلا أن الجمال لا يتبدل وعظمة الأماكن المتمثلة فى حضارتها لا تبلى مهما طالتها يد الإهمال.
لا تكف الإسكندرية أبدا عن إبهارى، ولم تتوقف يوما عن دفعى لانتهال المزيد من حضارتها العريقة، فلا الأماكن تروى عطشى ولا الذكريات ترحل دون أن تمنحنى الحنين.
هذه المرة كانت الزيارة للمتحف اليونانى الرومانى، الذى يحمل تاريخ المدينة بين دفتيه، الإسكندرية مرت بمرحلة إعادة الإعمار فى نهاية القرن التاسع عشر بعد الدمار الذى تسببت فيه مدافع الاحتلال البريطانى أثناء الهجوم على المدينة الساحلية، وأثناء تلك المرحلة نتج عن عمليات التوسع المعمارى عدد كبير من الاكتشافات الأثرية ترجع للعصور اليونانية والرومانية.
مما دفع رموز المجتمع لبحث إنشاء صرح يجمعها للحفاظ عليها باعتبارها إرثًا تاريخيًا للمدينة، على أن يقوم كبار رجال المدينة بإهداء القطع التى يُعثر عليها فى أراضيهم إلى المتحف، وهذا ما يفسر إطلاق أسماء مثل «أنطونيادس، والأمير عمر طوسن، ومنشا» على قاعات المتحف قبل غلقه للترميم، تم افتتاح المتحف رسميًا عام ١٨٩٢ فى عهد الخديو عباس حلمى الثانى.
بدأ بقاعة مستطيلة بالجناح الغربى تضم حولها ١٠ غرف، وفى عام ١٨٩٦ بنيت قاعتين أخريين، وفى عام ١٨٩٩ بمناسبة ولادة ولى العهد الأمير عبد المنعم تم افتتاح القاعات (١٣-١٦)، وفى عام ١٩٠٤ تم افتتاح القاعات من ١٧ إلى ٢٢، وكانت الاكتشافات تساهم فى سرعة التوسع وصولًا لدمج القاعات فى مبنى واحد يمثل تخطيط المتحف الحالى.
الحقيقة أن المتحف تركنى فى حالة انبهار، بل جعلنى أنتشى فخرا بأننى مصرية، هنا يجب أن أشيد بالاستقبال الحافل من سوزان أحمد مسؤولة العلاقات العامة بالمتحف، التى استقبلتنا بكل ذوق ورقى ودعتنا إلى جولة بصحبة مرشدة رائعة تُدعى رشا علي، وهى فى الحقيقة تستحق الإشادة لكونها لبقة ومتمكنة من كل معلومة تعرفها عن كل ركن من أركان المتحف، دور العلاقات العامة فى المتحف من أهم الأدوار لأنه واجهة المكان.
استوقفنى الكثير داخل المتحف أيضا، مثل وجود لوحات مكتوبة بطريقة «برايل» لذوى الاحتياجات الخاصة، استوقفنى نظافة دورات المياه وطريقة عرض القطع الأثرية بتسلسل تاريخى.. ببساطة استوقفنى المتحف ككيان مهم يدعو للفخر، حتى الشاشات التى تعرض مراحل انتشال الآثار الغارقة ومعالجتها ونقلها للمتحف شىء رائع.
كانت رحلتى التالية إلى مقابر كوم الشقافة وعامود السوارى فى منطقة كرموز، هذا العامود الذى أقامه الإمبراطور «دقلديانوس» فى عام ٢٨٤ بطول يصل إلى ٢٧ مترا من حجر الجرانيت الأحمر وسط منطقة مدافن المسلمين الحالية، وتعود تسمية العامود باسم عامود السوارى إلى العصر العربى «دقلديانوس» تعبيرا عن شكر السكندريين له؛ ويعتبر أعلى نصب تذكارى فى العالم.
تجاوره «مقابر الكتاكومب» التى تُعد واحدة من أهم المقابر اليونانية، وإحدى عجائب الدنيا السبع فى العصور الوسطى، كلمة «كتاكومب» تُطلق على المقابر المحفورة تحت سطح الأرض، عُثر عليها عن طريق الصدفة عام ١٩٠٠ على الرغم من أن الحفائر كانت قد بدأت فى هذه المنطقة منذ عام ١٨٩٢ ولم يعثر عليها وقتها، إلا أن سقوط حمار فى الفتحة الرئيسية للمقبرة على عمق ١٢ مترا كشف عن وجود آثار فى هذه المنطقة وهم يبحثون عنه.
لا تقل مقابر الكتاكومب فى نظرى عن أهمية المتحف الذى يشهد اهتماما واسعا، مثله مثل متحف المجوهرات ومشروع الصوت والضوء المُبهر الذى أقيم مؤخرا داخل قلعة قايتباى، إلا أن الإهمال الواضح فى منطقة عامود السوارى أصابتنى بحزن عميق، منطقة مهملة تحاوطها القمامة من جانب والباعة الجائلين والتكاتك من الجانب الآخر.. مزار سياحى بلا دورة مياه واحدة ولا مكان لجلوس السائح إذا أنهكه التعب، أما المرشدون السياحيون فحدّث ولا حرج، مجموعة مرتزقة بكل أسف بمظهر غير مشرف ومعلومات مغلوطة نابعة من عدم دراسة!.
إنه مكان أشبه بعروس جميلة ترتدى فستان فرح مهلهلا يسرق جمالها.. فلماذا؟
ما تحتويه الإسكندرية من تاريخ هو مزيج من الحضارتين اليونانية والرومانية، كنز لا يفهمه إلا من يدرك قيمته، من اليسير أن تصبح هذه المدينة مصدر دخل قومى هائل ببعض من الاهتمام، فنظافة الأماكن التاريخية وتمهيد الطرق حولها وتوفير مواصلات آدمية للسائح ودورات مياه نظيفة والدفع بشباب محترم من خريجى كليات الآثار يتقنون لغات أجنبية وهيئتهم محترمة، سوف يدفع السياح لوضع الإسكندرية ضمن خطتهم لزيارة مصر، وبالتالى لو رفعنا ثمن تذاكر الزيارة بالدولار إلى مبلغ كبير نسبيا، فلن يستخسر السائح دفع هذه القيمة وهو ممتن لوجود شرح وخدمة ونظافة.
إلى السادة المسؤولين.. يا سادة السياحة هى الحل.. ومصر تستحق.
د. رشا سمير – المصري اليوم