كان البحرُ هادئًا في ذلك اليوم، وكأنَّ السَّماء أبرمت معه اتِّفاقًا سريًّا؛ ليمنحني لحظةً نادرةً من الصَّفاء. هناك، على ضفاف جدَّة، ترسو السَّفينة الشراعيَّة الإيطاليَّة التاريخيَّة «أمريغو فيسبوتشي» لأوَّل مرَّة، تحمل على متنها حكايات البحَّارة، ومغامرات الأمواج.. وها أنا على وشك أنْ أضيفَ إليها سطرًا جديدًا من الحكايات.كلُّ شيءٍ كان يشير إلى أنَّني لن أكون من ركَّابها. الحجوزات نفدت، والفرصةُ بدت مستحيلةً. لكنَّني لم أفقد الأمل. انتظرتُ، جرَّبتُ، وحين وجدتُ باب الحجز مفتوحًا باللُّغة الإيطاليَّة ليوم الخميس، ظننتُ أنَّني حجزتُ تذكرةً لمعرض السَّفينة فقط. لم أكن أعلم أنَّني على موعد مع مفاجأة ستأخذني إلى عالم كنتُ أحلمُ به منذ الطفولة.عندما صعدتُ إلى السفينة،
شعرتُ وكأنَّني دخلتُ بوابةً زمنيَّةً، انتقلتْ بي إلى عصر كانت فيه الرِّياح تحدِّد مصير الرِّحلات، وكانت الأشرعة تروي قصص المسافرِينَ. كان طاقم السَّفينة في غاية اللُّطف، وكأنَّ البحر علَّمهم أنَّ القلوب الكبيرة تشبه المحيط، تتَّسع للجميع.التقيتُ بالقُبَّاطنة، الذين استقبلوني بحفاوة وكرم، لم أتوقَّعهما. وعندما أخبرتهم بأنَّني كاتبة، وأبحث عن تفاصيل تساعدني في بناء مشهد دقيق في روايتي، فتحوا لي أبوابًا لم تكن مفتوحةً للزوَّار العاديِّين.
دخلتُ معهم إلى القسم المخصَّص للموظَّفين، حيث يعيش الطَّاقم وسط البحر. رأيتُ كيف تنظِّم حياتهم في هذه المساحة الضَّيقة، وكيف يجدُون لحظات من الرَّاحة.كلُّ شيءٍ كان مليئًا بالتفاصيل التي تأخذك إلى عالم مختلف: أسرة مرتَّبة بعناية، معدَّات بحريَّة تقليديَّة وحديثة، وأجواء تحمل رائحة المغامرة. في تلك اللحظة، شعرتُ أنَّني لم أكن مجرَّد زائرة، بل شخص يحظى بفرصة نادرة لرُؤية الحياة من منظور آخر، حياة البحَّارة الذين يجوبُونَ العالم حاملِينَ معهم قصصًا لا تنتهي.لطالما سمعتُ من والدِي عن كرم الإيطاليِّين، فقد كان يتقنُ لغتهم، ويتعامل معهم عن قُرب. اليوم، أرى بأُمِّ عيني كيف يجسِّدون ذلك الكرم في ابتساماتهم، وضحكاتهم المليئة بالفكاهة، وفي تعاملهم البسيط معي.
رغم أنَّهم جزءٌ من إرث بحريٍّ عريق، إلَّا أنَّهم كانوا متواضعِينَ، وكأنَّ البحر جعلهم أكثر قربًا من الحياة.أمَّا في المعرض، حيث انتشرت رائحة الباستا الطَّازجة، وجدتُ نفسي أتأمَّل التفاصيل التي تعكس روح المطبخ الإيطاليِّ. وبينما كنتُ أتجوَّل، قال لي رجلٌ إيطاليٌّ بابتسامة صادقة: “الباستا تجعلنا سعداء ومبتسمين!” جملة عفويَّة تعكس فلسفة الحياة الإيطاليَّة.لم تكن هذه الرحلة مجرَّد زيارة، بل تجربة منحتني لحظة استجمام، بعد إنهاء آخر رواياتي. وسط السَّفينة العريقة، وأشخاصها الرَّائعِينَ، شعرتُ وكأنَّني زرتُ إيطاليا.. دون أنْ أغادرَ جدَّة.
فاطمة آل عمرو – جريدة المدينة

