آراءأبرز العناوين

بين اليوتوبيا والديستوبيا

اليوتيوبيا هي المدينة الفاضلة التي يتحقق فيها العدل والمساواة بين كل البشر، وهو أمر لا يحدث كاملا إلا في الجنة، لأن الجنة يديرها الملائكة فهمُ الكمال في أعظم صوره. رغم ذلك فرحلة الإنسان على الأرض هي من أجل هذه اليوتوبيا. أخذت الرحلة أشكالا متعددة أولها الخروج من الكهوف، ومقاومة الطبيعة بتقلباتها والحيوانات المفترسة، ثم الاهتداء إلى إقامة مجتمعات يديرها شيخ القبيلة، أو فيما بعد حكام الدول على اختلافها. ولأن الذي يقوم بالإدارة إنسان، وباعتبار أن الكمال لله وحده، كانت ضرورة تغيير الحكام، وجعلوا لذلك نظما تتسق مع تراث وتاريخ كل مكان، فصارت هناك مَلكيات وإمارات وجمهوريات.

الديستوبيا هي المدينة الفاسدة التي لا يتحقق فيها العدل ويتم فيها خراب الأرض. كثيرا ما أقامها الإنسان بنفسه بزعم أنه يفعل ذلك من أجل تحقيق اليوتوبيا على الأرض. منها ما جرى من الحركات الاستعمارية التي حملت هذه الكلمة المضللة « الاستعمار»، والأمر لم يكن تعميرا في البلاد التي تم غزوها واحتلالها، بقدر ما كان نهبا لثرواتها واستعبادا وقتلا لأهلها، من أجل رخاء بلد المستعمر الأصلي. كذلك ما جرى من أفكار شمولية سكنت أرواح حكام لبلاد كثيرة رأوا من حولهم أقل قيمة منهم، فغزوا بلادهم ودمروها من أجل سيادتهم المطلقة. الأحدث منها في التاريخ، ما فعلته المانيا النازية وما فعلته إسرائيل. هذه الأفكار الشمولية انقسمت بين أفكار فلسفية، فالنازية والفاشية رفعت شعار «الإنسان الأعلى» مقولة نيتشة التي اعتبروها تحققت لهم، وتعني شعوب بلادهم فقط. أو ترفع شعارات تبدو دينية وهي زائفة لا علاقة لها بالدين، مثل العقائد اليهودية التي ارتدت ثوب الصهيونية، بأن فلسطين هي أرض الميعاد التي وعدهم بها الله، بل وتمتد الأرض من النيل إلى الفرات. كل ذلك أقام الديستوبيا حولنا في البلاد المقهورة عبر التاريخ.

لقد شغلت الديستوبيا الأدب والفنون في كل أنحاء العالم وعبر التاريخ أكثر مما شغلته اليوتيوبيا. ما كُتب عن جحيم السماء لا يقل عما كتب عن الجنة. أما جحيم الأرض فلقد صار هو الشاغل الأكبر لكل المبدعين. صارت الفنون هي اليوتيوبيا على اختلاف مذاهبها واتجاهاتها رغم تجسيدها للديستوبيا الواقعة على الأرض. فالمتعة التي تشعر بها وأنت أمام لوحة مثل «الجورنيكا» لبابلو بيكاسو أو لوحة مثل «فريق الإعدام» لجويا وغيرها كثير جدا، هي نفس المتعة التي تقف بها أمام «الموناليزا» لليوناردو دافنشي رغم أنها ليست عن الخراب، أو « الحرية تقود الشعب» لديلاكروا رغم أنها عن الثورة. والحديث في الرواية والشعر والسينما والمسرح طويل. ولم يكن الانشغال بتجسيد الديستوبيا على الأرض في الفنون والأداب منفصلا عن السياسة والسير في الطريق الصحيح إلى اليوتوبيا مهما كان ثمنه.

والآن نسمع عن أن ترامب يريد بناء «ريفيرا» في غزة على غرار ريفيرا إيطاليا بدون أهلها. أو يوتوبيا للغرباء بعد الديستوبيا التي يعاني منها الشعب الفلسطيني منذ قيام دولة إسرائيل. يتجاهل أن الديستوبيا التي أقاموها في غزة عبر حوالي عام ونصف العام، هي استمرار لسياسة الاستعمار عبر التاريخ، وكما انتهى الاستعمار ستنتهي، ولن تفيد فيها أي شعارات دينية يقولون عنها إنها توراتية، ولقد انتهى عصر تهجير البشر من أوطانهم. وفي النهاية فإن رد فعل قيادات حماس الأخير، بإيقاف تبادل الأسرى حتى يتوقف ترامب وإسرائيل عن نواياهما، يكشف بوضوح إدراك جنود وأهل غزة أن كل ديستوبيا على الأرض زائلة، ومهما ابتعدت اليوتوبيا فالطريق إليها لا يكون إلا بأيدي أصحاب الأرض الحقيقيين ومن يؤيدهم، ولهم حتى ولو فوق الركام.

ابراهيم عبدالمجيد – الشرق القطرية

اضغط هنا للانضمام لقروبات كوش نيوز على واتساب

قروبات كوش نيوز الإضافية



اسماء عثمان

محررة مسؤولة عن تغطية الأحداث الاجتماعية والثقافية، ، تغطي القضايا الاجتماعية والتعليمية مع اهتمام خاص بقضايا الأطفال والشباب.
زر الذهاب إلى الأعلى