آراء

والركعةُ الثانيةُ في اتجاهٍ آخرَ!

كلما أقبل شعبانُ العظيم، وذكرى تحويل القِبلة، أقبلت معهما فكرة التغيير والتعديل والتطوير!

قُم دومًا بالتغيير! فلا تبكِ على وسادتك، بل على سجادتك..

قُم بالتغيير، فلا تجعل شكواك لبشر، أو حاجتك من إنسان، توجه فقط إلى الله..

قُم بالتغيير، فإن ضاق صدرك، أو قل رزقك، سافر تجد عوضًا عمن تفارقه..

قُم بالتغيير، فلا تقل همي كبير، بل قل ربي عظيم..

قُم بالتغيير، فإن تبدل عليك صحبك، نسوا ودك، وجحدوا عطائك، فارق ولا تندم، بلا إيذاء أو عقاب أو عتاب..

شهر شعبان، هُوَ الشَهْرُ الذي تُرْفَعُ فِيهِ الأَعْمَالُ إِلَى رَبِّ العَالَمِينَ، كما أخبر سيد المرسلين، صلى الله عليه وسلم..

فيه الليلة الأعظم، ليلة النصف من شعبان، والتي قال فيها، سيد الأنام صلى الله عليه وسلم: إِنَّ اللَه تَعَالَى لَيَطَّلِعُ فِي لَيْلَةِ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ، فَيَغْفِرُ لِجَمِيعِ خَلقِهِ إِلَّا لِمُشْرِكٍ أَوْ مُشَاحِنٍ..

تأملْ: جَمِيعِ خَلقِهِ! أي دون استثناء، ما أعظمه من عفو، وما أجله من كرم.

الاستثناء الوحيد (المشرك والمشاحن) وهُنا تبدو جليةً خطورة المشاحنات، وسوء عاقبتها، إذ وضعها رسول الله صلى الله عليه وسلم جنباً إلى جنب مع الشرك بالله!

سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَن قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا قُل لِّله الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَن يَشَاءُ إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ (البقرة:124)..

السين للاستقبال والتأكيد، وسيقول، كان بالإمكان ألا يقولون، فيهدمون بسكوتهم هذا، نصًا قرآنيًا! ويثيرون الدهشة والحيرة، وربما الشك، في قلوب المسلمين، لكنهم قالوا! وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ، تمامًا كما كان بإمكان أَبِي لَهَبٍ، أن يُسلم، ولو نفاقًا، ليهدم نصًا آخرَ: تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ! لكنه عاش على كفره، ومات أيضًا على كفره، فصدق النص، وصدق الله، وهذا إعجاز قرآني، يُضافُ إلى إعجازات القرآن الكريم الممتدة، واللامحدودة.

لماذا السُّفَهَاءُ؟ لماذا لم يقل، المشركون، أو الكافرون، أو المنافقون؟

هذا إبداع قرآني جديد، إذ هؤلاء جميعًا قالوا، وسخروا من تحويل القبلة! وقد جمعتهم، على اختلاف توجهاتهم، واختلاف طريقة تندرهم، صفة واحدة (السفه).

فالمشركون قالوا: يوشكُ محمدٌ أن يرجع إلى ديننا، كما رجع إلى قبلتِنا!

واليهود قالوا: لو كان محمدٌ نبيًّا حقًّا، لما خالفَ قِبْلَةَ الأنبياء قبله!

والمنافقون قالوا: لو كانت القبلةُ الأولى حقًّا، فقد ترك الحقَّ، ولو كانت القِبلةُ الثانية هي الحقَّ، فقد كان على باطلٍ!

مَا وَلَّاهُمْ! أسلوب إنشائي، استفهام، غرضه البلاغي التعجب والسخرية! وفيه سوءُ أدبٍ مع الله.

قِبْلَتِهِمُ! سوءُ أدبٍ آخرُ، مع الله أيضاً، إذ هي قبلته سبحانه في الأساس، وليست قبلة غيره!

وإجابة القرآن : قُل لِّله الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَن يَشَاءُ إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ..

لِّله الْمَشْرِقُ، أسلوب قصرٍ وحصرٍ، فيه تقديم للخبر على المبتدأ، للتأكيد على أهمية الخبر، أكثر من المبتدأ، فالمؤمنون يعبدون الخالق، لا القبلة والاتجاه.

وفي الإجمال، هي قصة هداية لمؤمنين، لسان حالهم على الدوام: سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ..

قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ (البقرة : 144)

قد والفعل المضارع، يختلفان عند الناس، وعند الله، عند الناس (يفيدان الاحتمالية) وعند الله (يفيدان اليقين) فلا زمن عند الله، على طريقة: أَتَىٰٓ أَمْرُ ٱللَّهِ فَلَا تَسْتَعْجِلُوهُ.. كيف لا نستعجله، وقد قُلتَ أَتَىٰٓ! المعنى، إذا قال الله عن شيء سيأتي مستقبلاً، فتعامل معه على أنه أَتَىٰٓ فعلاً.

تَقَلُّبَ وَجْهِكَ: أدبٌ في الرجاء، وأخلاقٌ في الدُعاء، إذ لا طلب مباشر، من رسول الله “صلى الله عليه وسلم”، لكنها أمنية سكنت قلبه “صلى الله عليه وسلم” حتى إنه يقلب عينيه دومًا في السماء، آملاً في نزول جبريل، عليه السلام، بالبشارة، وهي الأمر بتحويل القبلة.

وفي: تَقَلُّبَ وَجْهِكَ، بلاغةٌ، بالمجاز المرسل (علاقته الكلية) إذ أطلق الكل، وأراد الجزء، فالتقلب للعين (الجزء) وليس للوجه (الكل)..

قِبْلَةً: بدأت نكرةً هكذا، للتشويق، والتمهيد للمفاجأة الكُبري.

تَرْضَاهَا : سر الأسرار! وكنز الأخبار! فالقبلة كلها (ترضية للمصطفى، صلى الله عليه وسلم)، يالله من تشريف وتكريم ورفعة!

وقال تَرْضَاهَا (أي أنتَ) ولم يقل أرْضَاهَا (أي أنا) ولم يقل تهواها! فالأمر متعلق بالحقيقة والموضوعية، وليس فقط برغبات القلوب..

والرضا أعظم ما تصل إليه النفس، فبالرضا يسعد الإنسان، فيما ليس بالسعادة يرضى الإنسان! ولذلك كانت أعظم هدايا المولى سبحانه، لرسوله الأعظم “صلى الله عليه وسلم”: وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى..

فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ..

تتكررُ ثلاث مرات، في ثلاث آيات، من السورة نفسها، وفيها تأكيدٌ على الأمر والفكرة والمكانة، والقيمة العظيمة، لبيت الله الحرام..

سأل الأصحابُ الأخيار، رسول الله “صلى الله عليه وسلم” عن صلاة أناسٍ توجهوا بالقبلة للمسجد الأقصى، ثم ماتوا قبل تغير اتجاهها نحو المسجد الحرام؟ فكانت الإجابةُ من الله سريعةً ومباشرةً، عادلةً ومنصفةً:

وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ..

كُلُّ إِيمَانِكُمْ، وليس الصلاة وحدها (أيضًا بلاغة بالمجاز المرسل الذي علاقته الكلية) فقد أطلق الكل (الإيمان) وأراد الجزء (الصلاة)..

في مكةَ، توجه رسول الله “صلى الله عليه وسلم” بالصلاة، نحو المسجد الأقصى، والكعبة بين يديه.

وفي المدينة لمدة ستةَ أو سبعةَ عشرَ شهرًا، بعد الهجرة، يتوجه في صلاته نحو المسجد الأقصى، لكنَّ الكعبة ليست بين يديه، وإنما في قلبه، ومن هُنا زاد الشوق، واشتد الحنين.

في ذكرى تحويل القبلة، نتعلم أهمية التغيير، والسعي دومًا نحو الأفضل كما ندرك المقام الأعظم، لنبي الإسلام صلى الله عليه وسلم..

في ذكرى تحويل القبلة، نتعلم أن قلوب المسلمين تتجه جميعًا، نحو نقطة واحدة، وهدف واحد، بغض النظر عن مواقعهم، شرقًا وغربًا، شمالًا وجنوبًا.

وفي ذلك أيضًا، رسالةٌ أُخري، لوجوب وحدة الصف، ونبذ الخلاف..

في ذكرى تحويل القبلة، نؤكد أن قوة المسلمين، لم تكن يومًا في عددهم، بل في إيمانهم، فالمرجفون والمشككون والمنافقون، لا مكان لهم في صفوف الإسلام الحقيقية، فكما كان الإسراء والمعراج اختبارًا، كان تحويل القبلة أيضًا اختبارًا، اختبارًا للذين يؤمنون بالغيب، يسمعون ويطيعون، تلك الطاعة التي جعلتهم، بمسجد قباء، ذي القبلتين، يصلون ركعةً من الصبح في اتجاه، والركعة الثانية في اتجاه آخر! لمجرد علمهم بما قال المنادي: إن القبلة قد تغيرت! وصلى رسول الله “صلى الله عليه وسلم” في اتجاه المسجد الحرام!

لم يقولوا كيف؟ ومتى؟ وما صحة القول؟ ولم ينتظروا للصلاة التالية، بل لبوا الأمر، في الصلاة ذاتها، وهكذا هم المسلمون حقًا..

د. عادل اليماني – بوابة الأهرام

اضغط هنا للانضمام لقروبات كوش نيوز على واتساب

قروبات كوش نيوز الإضافية



اسماء عثمان

محررة مسؤولة عن تغطية الأحداث الاجتماعية والثقافية، ، تغطي القضايا الاجتماعية والتعليمية مع اهتمام خاص بقضايا الأطفال والشباب.
زر الذهاب إلى الأعلى