Site icon كوش نيوز

أشغلونا بالماضي فنسُّونا الحاضر والمستقبل

القرآن الكريم

منطقتنا العربيَّة يتوفَّر بها كلُّ المقوِّمات الحضاريَّة، التي تحتاجها التنمية، كالكوادر البشريَّة التي تتجاوز في عددها 300 مليون، والثروات الكامنة تحت الأرض كالبترول، والغاز، والمعادن بمختلف قيمها، والتي فوق الأرض كوجود الأراضي الزراعيَّة الواسعة، التي تكفي كفايةً كاملةً لسكَّانها، وتُصدَّر إلى مختلف بلدان العالم، وكذلك المواقع الإستراتيجيَّة الهامَّة جدًّا، والتي تتوسَّط الكرة الأرضيَّة، وتسيطر على أهم منافذها البحريَّة والبريَّة، ولكن -للأسف- بالرغم من كلِّ ذلك الثَّراء، نجد أنَّ أُمَّتنا العربيَّة تقبعُ في ذيل قائمة دول العالم تقدُّمًا ونموًّا حضاريًّا، ولابُدَّ لهذا الخلل الكبير جدًّا من وجود أسباب تقف عاجزةً عن تحقُّق ذلك التطوُّر المستوجب لذلك النموِّ، والتي يمكن أنْ أُوجزها في أسباب هي معروفة جدًّا ولكن جامدة الحِراك، لعلَّ أبرزها:- للأسف الشَّديد أنَّ الفهم الخاطئ من قِبل البعض لديننا الحنيف المُيسَّر بأمر الله تعالى، والذي أجمله الله، وكمَّله، وأتمَّه في كتابه الكريم، قد انحرف بتعليماته الربانيَّة، واجتهاد البعض بما أضافوا لما أحكمه الله، وفصَّله في ستمئة صفحةٍ فجعلوه ملايين الصَّفحات،

ولم يقف الأمر عند ذلك، بل تحوَّلوا إلى مراجع مقدَّسة بدل كتاب الله، وهكذا أصبح الأمر عند تلك الشُّعوب مجرَّد توابع عمياء الفكر، تنظر إلى الدِّين أنَّه هؤلاء المقدِّسون، فتحوَّلت دُولهم إلى الاتِّجاه العكسيِّ من الحاضر والمستقبل، الذي يستوجب البناء والنَّماء، إلى الماضي الجامد المقدَّس، وهكذا أصبح كتاب الله تعالى الكامل التام المُفصَّل المُفسَّر لا يمثِّل إلَّا الجزء اليسير من الدِّين الموازِي، الذي صنعه البشر، وهذا ما يمكن أنْ ينطبق عليه قول الله تعالى: (وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنزَلَ اللهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُوا حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ)، وقوله تعالى: (وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا)، وهكذا توقَّف التَّفكير تحت مظلَّة المحرَّمات البشريَّة.- وفي جانبٍ آخرَ، نعلمُ أنَّ تلك الحكومات القائمة عبر تلك السنوات استجلبت هذه الحالة لصالحها؛ لتبقى متجذِّرةً بسلطتها الدِّينيَّة والسياسيَّة المُطلقة، فساهمت في بقاء تلك الحالة الجامدة حتَّى يومنا هذا.- ونعلمُ -تمامَ العلمِ- أنَّ الجهل المُدقع، الذي أصبح يشمل مسارب بلادنا العربيَّة والإسلاميَّة، قد ساهم في ذلك. فالجهلُ يُعدُّ مهلكةَ الأفراد والأمم معًا؛ كونه -أي الجهل- يجعل حامله أقربَ إلى الأنعامِ في ممارسة حياتهِ؛ لذا وصفَ اللهُ تعالى الجهلاءَ بالأنعامِ حين قال سبحانه: (أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا).

فالسمع والعقلانية تعد أهم أدوات التعلم، وفقدان دورها يجعل حاملها يحتل مرتبة «جاهل»! وفي هذه الحالة تصبح الممارسة الحياتية لمن يتصف بهذه الصفة، تتسم بالتبعية والغوغائية والخرافة، وهذا بالتمام ما يفعله المقدسون للبشر؛ لأن التقديس لا يكون إلا لله تعالى، وممارسته مع البشر يعد شركاً بواحاً، ولو أسقطنا ذلك على الواقع المُمارَس عند الكثير من المسلمِين، نجده يبالغ في المدحِ والتَّبجيل لحدِّ التَّقديس، حينما يجعل ما يفعله، أو يقوله لا يأتيه البَاطلُ من بينِ يديهِ ولا مِن خلفهِ، ولعلَّنا نجدُ هذه الحالة موجودة في مجتمعاتنا الإسلاميَّة بدرجةٍ لافتةٍ.وفي الجانبِ الآخرِ، نجدُ أنَّ المقدِّسِينَ من البشر، يجدُونَ في ذلك تضخيمًا لذواتِهِم، تجعل الشيطانَ يدخل من خلالها، فيوهم ذلك الشَّخص المقدِّس أنَّه فوق النَّقد، وأنَّه بلغ مرتبة الكمال، الذي يخصُّ الله تعالى، وهنا يتَّضح -أيضًا- حجم الجهل الذي يحرِّك سلوكه ومعاملاته؛ كونه صدَّق المكذوبَ المبالغَ فيه، وهنا يدخلُ المقدِّس «بكسر الدال»، والمُقدَس «بفتح الدال» إلى طريق الانحراف اللذان يستحقَّان -من خلاله- وعد الله تعالى في قوله: (إِنَّ اللهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاءُ).ثم تكون المصيبة أعظم، عندما يكون المقدِّس والمقدَّس من أُمَّة محمَّدٍ -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ- الذي كان نبراسًا لأُمَّته في التَّواضع، والخُلق الرَّفيع، والمقت الشديد لمَن يمارس كلَّ ألوانِ التَّقديس، حينما قال -عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ-: (لَا تُطْرُونِي كَمَا أَطْرَتِ النَّصَارَى ابْنَ مَرْيمَ؛ إنَّمَا أَنَا عًبْدُهُ، فقولُوا: عبد اللهِ ورسولهُ) والإطراءُ هو المبالغة في المدح، وهذا رسول الله ونبيُّه، فكيف بغيرهِ من البشرِ؟.

د. محمد سالم الغامدي – جريدة المدينة

Exit mobile version