فاشية ترامبية مبكرة تبتز الأنظمة وترهب التكتلات وتمارس البلطجة الدولية
فى اليوم الأول من شهر يناير الجارى، وبالتحديد منذ 80 عامًا فى عام 1942، وقّعَ كل من ونستون تشرشل رئيس وزراء بريطانيا العظمى، وفرانكلين روزفلت رئيس الولايات المتحدة الأمريكية، وجوزيف ستالين رئيس وزراء الاتحاد السوفييتى، إعلان عصبة الأمم المتحدة بتكوين التحالف الذى قاد الحرب العالمية الثانية ضد ائتلاف دول المحور بقيادة ألمانيا النازية أدولف هتلر، وإيطاليا الفاشية بينيتو موسوليني ، والإمبراطور اليابانى هيروهيتو، الموقعين على الاتفاق الثلاثى لمدة عشر سنوات فى سبتمبر 1940..
الحرب الأكثر ضراوة فى تاريخ الإنسانية والأفدح من حيث حجم الخسائر البشرية التى قدرت ما بين 60 و85 مليون مدنى وعسكرى..
6 سنوات كاملة خسر خلالها العالم وفقًا لتقرير نشره موقع دويتشه فيله فى عام 2014.. ما يتراوح بين 100 و200 مليار دولار، بحسب تقديرات أستاذ الاقتصاد السويسرى كارل جونار سيلفر فى عام 1947.. حرب شارك فيها ما يقرب من 30 دولة فى العالم.. وانتهت بتغيير فى الخريطة العسكرية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية للعالم..
كما تم بعدها تأسيس منظمة الأمم المتحدة لتعزيز التعاون الدولى واحترام حقوق الإنسان وأطلق بداخلها العديد من الكيانات التى تحقق آفاق العلاقات الدولية المتكافئة، وتقِى العالم جور الدول الكبرى على البلدان الصغرى، وتحمى حقوق المواطنين فى جميع أنحاء العالم، وترسى مبادئ العدل والمساواة، وتكافح التمييز والكراهية والتعصب..
ثمانية عقود مرت على انتهاء الحرب العالمية الثانية، حقق العالم خلالها مكاسب عدة للحفاظ على كل البشرية وتحريرها من معظم القيود والمعتقدات العنصرية ..
سنوات من الاجتهاد والعمل البشرى المنظم لنشر مبادئ الديمقراطية وإرساء المساواة وتحقيق العدالة الاجتماعية ونشر الحريات بمختلف ألوانها وأنواعها..
كانت الحرب العالمية الثانية ثورة حقيقية على النازية والفاشية وجميع الأفكار العنصرية التى تفرز ثقافة التمييز وتغطى على استقلالية الفرد فى مقابل سطوة الحاكم تحت شعار «الدولة أولاً وقبل المواطنين وحرياتهم..”
كما أن الحرب العالمية الثانية وقفت أمام فكر استعمارى يستهدف مصلحة شعوب نخبة على حساب مصالح دول وشعوب مستضعفة.. ولا أحد ينكر أن شكل العالم بالكامل قد تغير بعد هذه الحرب الدموية واسعة النطاق، وأصبح التوجه السائد هو مصلحة العالم وليس مصلحة نظام أو منهج فكرى أو دولة بعينها..
ساعدت الولايات المتحدة الأمريكية دول الحلفاء فى أوروبا لاستعادة قوتها بعد التدمير الشامل الذى لحق باقتصاداتها.. لتوفير استقرار وحياة ومستقبل للشعوب الأوروبية.. وبنت تحالفًا قويًّا مع هذه الدول من أجل إرساء مبادئ ديمقراطية وحريات اقتصادية وسياسية واجتماعية..
وكان مشروع مارشال الذى أُطلق عام 1948 من قبل وزير الخارجية الأمريكي الأسبق، جورج مارشال، بمثابة طوق نجاة لدول أوروبا الغربية التى دمرتها الحرب وأدخلت شعوبها فى الفقر المدقع، وانتشرت بها مختلف الأوبئة والأمراض وغطتها ملامح الدمار والخراب..
قدمت الولايات المتحدة الأمريكية من خلال هذا المشروع 13 مليار دولار لترميم المدن وإحياء الصناعة وتحريك عجلات الإنتاج مرة أخرى فى أوروبا الغربية..
وكان من بين النتائج الأساسية لهذا المشروع إرساء مبادئ التكامل الاقتصادى الأوروبى وإلغاء العوائق التجارية وإرساء مبادئ التعاون على المستوى القارى بين الدول الأوروبية، الأمر الذى ضاعف من معدلات النمو بها.. وشجع على إعادة الإعمار السياسى الكامل لأوروبا الغربية وفقًا لما ذكرته (ويكبيديا الموسوعة الحرة)..
ومنذ هذا التاريخ، أى منذ 77 عامًا تقريبًا، وأوروبا الغربية هى الحليف الرئيسى للولايات المتحدة الأمريكية والداعم السياسى والعسكرى والاقتصادى لها فى كل القرارات التى تتخذها فى العالم بأكمله.. وقد أسفر هذا التحالف عن العديد من المنظمات المؤسسة له مثل منظمة حلف شمال الأطلسى (الناتو) الذى تأسس فى أبريل 1949..
بعد الاستهلال التاريخى لمقالى انتقل إلى يوم كتابة المقال 26 يناير 2025.. وبنظرة سريعة على الواقع الذى نعيشه اليوم.. نجد أن كل السرد التاريخى السابق بصدد التعرض لزلزال يهدد مرة أخرى كل المكتسبات التى حققها العالم بعد عقود من النضال وسنوات من العمل والجهد المتواصلين..
وبالتأكيد لا يخفى على القاصى والدانى السبب.. ألا وهو انتخاب واحد من أكثر الشخصيات نرجسية وحبًا وتأليهًا للذات فى العالم بأكمله دونالد ترامب رئيس الولايات المتحدة الأمريكية..
ووصف ترامب بأنه نرجسى ليس وصفًا أنسبه لذاتى المتواضعة، ولكنه يأتى نقلًا عن مصادر عدة منتشرة فى الصحافة والإعلام العالمى.. فنقلاً عن ويكبيديا الموسوعة الحرة بالتحديد تحت عنوان «صحة دونالد ترامب» تذكر الموسوعة الدولية أن الصحة النفسية أو العقلية لدونالد ترامب هى قضية ظهرت منذ الأيام الأولى لحملة ترامب من أجل منصب رئيس الولايات المتحدة الأمريكية..
فالعديد من الشخصيات والمناصب العامة ومصادر الإعلام والعاملين فى مجال الصحة العقلية قد افترضوا أنه يعانى تحديات صحية تتراوح بين اضطراب الشخصية النرجسية، وشكل من أشكال الخرف والذى ينتشر فى عائلته..
إن تنصيب دونالد ترامب البالغ من العمر 78 عامًا وسبعة أشهر، الرئيس السابع والأربعين للولايات المتحدة الأمريكية، والذى سينهى رئاسته- إذا كتب الله له البقاء بها كاملة- عن عمر 82 عامًا وسبعة أشهر، أى أكبر من بايدن الرئيس الأمريكى السابق بعام كامل لدى مغادرته البيت الأبيض بواشنطن.. أقول إن هذا التنصيب وإعادة توليه الرئاسة من وجهة نظرى تحمل فى طياتها مجموعة من التحديات العظيمة التى ستقابل العالم والولايات المتحدة الأمريكية على حد سواء خلال المرحلة المقبلة..
وسوف أوجز هذه التحديات فى النقاط التالية..
أولاً: ذكر ملامح الشخصية النرجسية التى لا تقبل الهزيمة ولا تعترف بها، سوف يفرض إجراءات انتقامية عنيفة متوقعة من الرئيس ترامب تجاه كل من عارضوه أو وقفوا ضده خلال السنوات الماضية.. الأمر الذى لا يليق بالولايات المتحدة الأمريكية كأكبر قوى عظمى
ثانيًا: نشر روح الكراهية والتميز والتطرف السياسى والاجتماعى التى ظهرت واضحة فى أول القرارات والإجراءات التى اتخذها بعد لحظات من توليه الحكم ضد المهاجرين والجنسيات الأخرى بالولايات المتحدة الأمريكية..
ثالثًا: ترسيخ الأفكار النازية التى دمرت ألمانيا وقسمتها على يد الديكتاتور النازى أدولف هتلر من خلال الانحياز الواضح للمسيحيين البيض على اعتبار أنهم الفئات الأفضل أو الأحق بامتيازات الولايات المتحدة الأمريكية على حساب تهميش الأمريكيين والملونين من الأصول المختلفة، وعلى حساب اضطهاد الأديان والمعتقدات الأخرى وفى مقدمتها المسلمون، ما ينذر بالحروب الطائفية الخطيرة التى من شأنها تفتيت وتدمير الولايات المتحدة الأمريكية القائمة على فكرة المواطنة والمساواة بين أفراد الشعب كافة..
رابعًا: عودة مرة أخرى إلى السياسات الفاشية للديكتاتور الإيطالى موسولينى، بسحق المعارضين له واستخدام الميليشيات لتدعيم مواقفه، ويبرهن على هذا التوجه القرار الفورى بالإفراج عن المحبوسين فى قضية اقتحام الكابيتول بمجرد توليه المنصب، فى تدعيم لأنصاره من مثيرى الشغب والراغبين فى ترهيب الدولة والشعب لإقرار رغباتهم بعيدًا عن ممارسات الديمقراطية..
خامسًا: الممارسات الديكتاتورية تحت شعار «إعلاء مصالح الوطن أولاً»، مع وجود ميل لتهميش السلطات الأخرى والمبالغة فى الصلاحيات من خلال التصريحات العنترية دون التوافق مع مبادئ الدستور الأمريكى أو حتى احترام لمبدأ فصل السلطات واحترام الاختصاصات وحدودها .. مثل تصريحات عدم منح الجنسية للمولود داخل الأراضى الأمريكية والتى ينص عليها الدستور
سادسًا: استخدام لغة فرض القوة والبلطجة الدولية سواء من حيث التصريحات المباغتة، مثل اقتراح ضم كندا لتصبح الولاية رقم 51 للولايات المتحدة الأمريكية، فى إطار التحقير لسيادة الدول بدون أى ضوابط أو الاعتبار بأنه رئيس دولة ولا يحق له أن يتناول سيادة دولة أخرى بهذا المنطق الفوضوى، ناهيك عن التهديدات بفرض الرسوم الجمركية والعقوبات الاقتصادية على التكتلات المختلفة مثل «بريكس» حال تفكيرها باستخدام أى عملة أخرى غير الدولار أو تهديد الدول الأوروبية الحليف الرئيسى للولايات المتحدة ومطالبتها برفع معدلات الإنفاق فى حلف شمال الأطلسى «الناتو» إلى 5٪ من إجمالى ناتجها المحلى الإجمالى على موازنات الدفاع..
إن تصريحات ترامب حتى الآن تنذر بعواقب وخيمة وغير مطمئنة على العالم بأكمله.. وبالتأكيد منطقة الشرق الأوسط لن تكون فى مكانة أفضل..
والطريف حقًا أنه بمنتهى العجرفة يطالب المملكة السعودية باستثمار تريليون دولار بالولايات المتحدة الأمريكية، فى إشارة إلى أن هذا هو أقل ما يمكن قبوله من أجل توفير الحماية أو سلامة العلاقات.. كما أنه يهدد العالم بأكمله أنه على أتم استعداد للإضرار بمصالح أى دولة إذا تعارضت مع مصالح واشنطن، ضاربًا عرض الحائط بكل ما ضحى به العالم من أجل الحفاظ على مصالح جميع سكان الأرض دون تفضيل..
إن تصريحات ترامب، حتى الآن، تهدد مكانة الولايات المتحدة الأمريكية كقوى عظمى وتقزم الوجود الأمريكي إلى مجرد نظام رأسمالى متوحش أنانى لا يهتم سوى بمصالح حفنة من الشركات العملاقة الكبرى وشركات tech pro التى تؤيده وتناصره من أجل مصالحها ومن أجل مزيد من السيطرة على مقدرات وحريات الشعوب.. وتنذر تلك التصريحات العنترية ببداية نهاية أمريكا القوى العظمى الكبرى فى العالم.. وذلك بتخليها عن دورها الأساسى الذى يكمن فى الحفاظ على التوازن الاقتصادى واستقرار الحياة لكل شعوب العالم..
دينا عبدالفتاح – المصري اليوم