بعيداً عن مماحكات تهمة وجود خاصية عربية للعقلية العربية الجمعية تجعلها أقل ذكاء وموضوعية في تعاملها مع المشاكل الكبيرة التي تواجهها مجتمعاتها بين الحين والآخر، وإيماناً بأن الذي يحكم العقلانيات الجمعية هو الخلفية الثقافية والسلوكية التاريخية للمجتمعات، دعنا نحلّل وننقد مواقف وأفهام البعض لما جرى مؤخراً في خارج بلاد العرب وفي داخل بعضها.
فأولاً، هناك إصرار البعض على أن ما جرى في مدينة لوس أنجلوس في ولاية كاليفورنيا الأمريكية هو عقاب إلهي للولايات المتحدة بسبب موقفها الاستعماري المشين المؤيد للإبادات اللاإنسانية الإجرامية التي ارتكبها الجيش الإسرائيلي بحق أطفال ونساء وشيوخ وشباب غزّة الفلسطينية.
فإذا كان الأمر هو عقاب إلهي فلماذا توجه ضد شعب ولاية كاليفورنيا، الذي يضم الألوف من العرب والمسلمين والمهاجرين، والذي وقفت مجموعات كبيرة منهم في تعاطف إنساني وحقوقي مشهود مع الشعب الفلسطيني، وفي معارضة شديدة لسلطات الحكم الأمريكية في تحالفها مع حكومة نتنياهو؟ وذلك بدلاً من توجيه العقاب المستحق إلى مدينة واشنطن، حيث البيت الأبيض والكونغرس الأمريكي والبنتاغون العسكري والاستخبارات المركزية الأمريكية، والتي تعاونت جميعها في اتخاذ القرارات الرسمية الجائرة وتقديم المساعدات المالية والعسكرية والاستخباراتية لإسرائيل؟ أليس ما يقوله هؤلاء عن مأساة لوس أنجلوس يتعارض مع المبدأ الإلهي الإسلامي العادل الأخلاقي، في دين الحق والقسط والميزان، المؤكد بأنه «ولا تزر وازرة وزر أخرى»؟ لكنها الثقافة والسلوكيات المتزمّتة المتخلفة لدى البعض، بقصد أو من دون قصد، تفعل فعلها في فهم سطحي أوحى به الله سبحانه وتعالى بأخلاق النّبل والسمو والإيمان العفيف.
وثانياً، هناك لغط غير متأنّ ولا تحليلي متوازن ولا صبر حتى تتكشف كل الحقائق ويرد على الكثير من الاتهامات من خلال كتّاب موضوعيين ومراكز بحوث مستقلة وجهات قضائية عادلة، وليس ممّن يمكن اعتبارهم ممّن صمتوا دهراً ثم نطقوا كفراً، وذلك بشأن ما جرى في سوريا ولبنان من انتكاسات في مواجهة إسرائيل ومن تغيرات جيوسياسية كبرى في أنظمة الحكم في البلدين.
ولم يسلم حتى الشهداء والأبطال الذين قدّموا أرواحهم وأرواح عائلاتهم، وضحّوا بكل ما يملكون من متاع الدنيا، ثمناً لمواجهة الاستعمارين الصهيوني والغربي في فلسطين والعديد من أقطار الوطن العربي، من رشاش ذلك اللّغط ومن تعابير التشفّي ممّن اقتصر نضالهم على الثرثرة في المقاهي والفنادق الفخمة ووسائل الإعلام المشبوهة. ويعجب الإنسان من الذين لم يصبروا ليروا نتائج ما حدث في الواقع العربي المأزوم المستباح قبل أن يوزعوا أوسمة البطولة وشهادات النجاحات الكبرى المبهرة على هذا الشخص أو تلك الجهة.
والملاحظ أنه لم يتعلّم هؤلاء من دروس الملايين التي خرجت في الماضي القريب في الشوارع فرحة مهلّلة لتعود بعد حين إلى بيوتها مكسورة الكبرياء وحزينة القلب. فالأوضاع العربية في أيامنا البائسة لا تؤتمن، خصوصاً إذا وجدت الولايات المتحدة في أي مشهد كما هي الحال في سوريا ولبنان، فاللؤم الأمريكي يتخفّى وراء ألف قناع.
ومرة أخرى، إنها الثقافة والسلوكيات التي تفرح مستعجلة للترحيب بالمبادرات والشعارات قبل أن تراها متجسّدة في أفعال، وتنكسر مستعجلة أمام الصّعاب وقلّة الجهد المطلوب.
ما أبرزناه من نواقص في المثالين، مثال الحرائق في كاليفورنيا ومثال التغيرات الكبرى في سوريا ولبنان، قصد به تنبيه جيل المستقبل من شابات وشباب العرب إلى الأهمية القصوى لتقييم الأحداث الكبرى الحتمية المستقبلية من خلال ثقافة وسلوكيات التحليل العميق العلمي والنقد الهادئ الموضوعي لكي يكتسب تقييمهم صفة العقلانية الفاعلة في الواقع، بعيداً عن عقلانية ردود الفعل الهائجة الحالمة المؤقتة.
علي محمد فخرو – صحيفة الخليج