وهديناه النجدين
يتمنّنُ المولى، جلَّ وعز، على عباده بأسلوب الاستفهام التقريري، الذي لا يستطيع العبد إنكاره مهما كان كفوره وإلحاده، يقرره جلَّ شأنه بأن نعمه عليه كثيرة، فكما أنعم عليه بالنعم الظاهرة من العينين اللتين يبصر بهما، واللسان الذي يتكلم ويتذوق به، والشفتين اللتين تكملان جماله ويُخرج منهما حروف نطقه، كذلك أنعم عليه بما هو أجل من ذلك كله، وهو أنه هداه {النَّجدين}، أي خلق فيه عقلاً يميّز به طريق الخير من طريق الشر، ليسلك الطريق الذي ينفعه، ويتجنب الطريق الذي يهلكه، وقد سمّى الله تعالى كلا الطريقين نجداً، والنجد هو المرتفع من الأرض الذي يحتاج جهداً ومشقة للوصول إليه؛ لأن العبد لا يرقى إلى الخير إلا بمجاهدة النفس والصبر على الطاعة، كما لا يرقى إلى طريق الشر إلا بنوازع الشر وسوقها إليه سوقاً حثيثاً، كما ورد في الحديث «حُفَّت الجنة بالمكاره وحُفَّت النار بالشهوات»، وإنما هدى الله تعالى الإنسان إلى هذين الطريقين ليكون هو الحاكم على نفسه، كما قال ربنا سبحانه في آية أخرى: ﴿إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا﴾.
فأنت أيها الإنسان الممَيَّز بهذه النعم العظيمة من بين سائر الخليقة؛ هل تعرَّفت إلى هذا المنعم سبحانه وأديت له ما يجب عليك من الإيمان به من غير ريب، وعبادته وحده من غير تشريك؟ وهل تجنبت مخالفته فيما أمر أو نهى؟
إن هذه الهداية هي البرهان الواضح الذي سيكون حجة لك عند ربك إن اهتديت لنجد الخير، أو حجة عليك إن اهتديت لنجد الشر، وأنت في دار العمل التي ليس فيها جزاء، وغداً تنتقل إلى دار الجزاء التي لا عمل فيها، وقد أرشدنا ربنا جلَّ شأنه إلى نجد الخير الذي تكون فيه سعادتنا بما دلت عليه الآيات بعد «النجدين» ﴿فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ﴾ إلى آخر السورة، لتكون دليلاً إرشادياً لنجد الخير حتى لا يقول العبد: إنك يا رب تركتني حائراً أيَّ النجدين أسلك؟ فها هو قد رشَّح لك نجد الخير، بفعل هذه الخيرات، وبهذا تزداد حجة الله تعالى على الإنسان إن لم يسلك نجد الخير، وعندئذ فلا حجة له إن نال الجزاء العادل، وهذا كله من رحمة الله تعالى بعباده، وبالغ عدله فيهم، فإنه سبحانه لا يظلم أحداً، بل إنه حرّم الظلم على نفسه وجعله بين عباده محرماً، فما هو إلا جزاء وفاق لأعمالهم، فمن وجد خيراً فليحمد الله، ومن جد غير ذلك فلا يلومنّ إلا نفسه، فقد قامت الحجة ووضحت المحجة.
د. أحمد بن العزيز الحداد – صحيفة الإمارات اليوم
*كبير مفتين مدير إدارة الإفتاء في دبي