آراء

حتى لا يعود الفراعنة من جديد

منذ قديم الزمن حتى اليوم، لا تجد طاغية أو فرعوناً يتعظ من تجارب وأخبار من سبقوه في الحكم. كل طاغية يعتقد أن ما جرى لنظيره في موقع ما لن يتكرر معه، وشواهد التاريخ كثيرة ومتنوعة. أبرزهم فرعون موسى، ثم من جاء بعده من الطغاة على مر السنين، حتى كان آخرهم الذي خرج خلسة من قصره إلى صقيع روسيا، بعد أن « ظن أن لن يحور» ولن ينقلب عليه أحد !

أفعال الطغاة تلهب أفئدة الجماهير بعد حين من الدهر، طال أم قصر، فتتحول لجماهير غاضبة قد تنتج عنها ثورات ذات قوة هائلة لا يستوعبها الطغاة عادة. تلكم القوة قادرة على التغيير لو أنها اندفعت باتجاه صحيح عبر قيادة واعية راشدة، تعرف أولاً معنى حشد الجماهير وتوجيهها باستخدام القوة الهائلة الكامنة فيها، وتعرف ثانياً كيفية استنهاض وتوجيه تلك القوى الكامنة في الوقت المناسب، مع مهارة وقدرة تلك القيادة على ضبط وربط تلك الحشود حتى الوصول إلى الغاية المنشودة، دون أن تتشرذم تلك الحشود، ويحصل ما لا يُحمد عقباه.

ليس كل حشد ثورة

من بحثوا فلسفة الثورات وعلم نفس الجماهير، وجدوا أن الثورة يمكن أن تطلق على أي حركة شعبية تحدث تغييراً ونقلة نوعية في المجتمع، تشمل الجانب السياسي، الاقتصادي، الاجتماعي، الأمني وغيرها من جوانب. بمعنى آخر، يمكن أن نطلق على أي فوران شعبي أنه ثورة، إذا اشترك فيه غالب قطاعات المجتمع، وهدف الجميع واحد أو محدد، وهو إزالة نظام بكامله، وليس شخوصاً بعينهم، كتغيير رئيس النظام مثلاً أو تغيير حكومة، مع بقاء بقية أنظمة الدولة كما هي، لاسيما الدولة العميقة.

هذا تغيير لا يمكن أن يطلق عليه ثورة، لكنه أقرب لأن يكون انقلاباً أو انتفاضة على وضع معين، أو احتجاج بزخم ثوري مؤقت، ما يجعله محدود الأثر. بمعنى أنه لا توجد أي ضمانات أن تأثيراته ستمتد لحصول تغيير تام في البلاد، لكن رغم ذلك يمكن اعتباره شرارة أولية تحتاج إلى موجة ثانية وثالثة ورابعة وربما عاشرة من موجات عمل جماهيري ثوري حقيقي منظم.

ما حدث مثلاً في انتفاضات الربيع العربي الذي انطلقت أواخر 2010 يمكن اعتبارها أمثلة واضحة على ما نتحدث فيه. فما جرى في تونس مثلاً ومن بعدها مصر ثم ليبيا واليمن، لم تكن سوى تفريغ سريع لاحتقانات شعبية على شكل تظاهرات وحشود، لكن لم يتم استثمارها بشكل صحيح أولاً، حتى تدافعت ثانياً قوى طاغية ظالمة تكاتفت بكل الصور والوسائل لوأدها أو تضليلها. وهذا ما حدث. إذ عادت الجماهير إلى المربع الأول وهي أكثر خشية ورعباً من أنظمة الحكم، التي تجبرت أكثر وأكثر، وأعادت ترسيخ نفسها، بل وتعاونت مع كل قوى الشر الأرضية من أجل البقاء وعدم تكرار ما جرى..

النموذج السوري

لكن أبرز الأحداث التي شغلت وما زالت تشغل العالم كله، ذلكم الانقلاب الهائل الذي جرى في سوريا، بعد أن ظن الجميع أن الجماهير السورية التي انتفضت وتظاهرت وقاومت النظام في السنوات الأولى من الثورة، انتهت ولم تعد لها قائمة. فهي على أرض الواقع لم تعد إلى المربع الأول فحسب، بل تشتتت شرقاً وغرباً، بل في كل الأنحاء. وظن الجميع في الوقت نفسه أن النظام استقر وترسخ أكثر بعد أن تدافعت قوى شر لها أجندتها، زعمت ظاهرياً دعم النظام والمحافظة على أمن البلاد، وهي في الباطن كانت تسعى لتثبيت مصالحها وتجسيد أجندتها على أرض الواقع، وقد تناسوا جميعاً بطلان سعيهم وقذارته، وأنه ظلم وبغيٌ بيّن، وذلك الظلم مرتعه وخيم، وعلى الباغي تدور الدوائر ولو بعد حين، والمكر السيئ لا يحيق إلا بأهله، وقد حاق بهم من كل جانب.

ما جرى فعلياً في الحراك الثوري السوري، أن نواة الثورة على الظلم بقيت صالحة لم تفسد، حيث تمت رعايتها وبناء مساراتها تدريجياً كي تدور فيها قريباً كل القوى الراغبة في تغيير واجتثاث نظام باغ فاسد ظالم، عاث في الأرض فساداً، وطال أمره كثيرا. حتى إذا دنت ساعة الخلاص والاجتثاث، تحركت الجموع المؤمنة بالله أولاً ثم المؤمنة بهدفها، فكان ما كان خلال أيام عشرة حاسمة جاء خلالها الحق بقوته، وزهق الباطل بقساوته وأدواته.

وما زالت، حتى ساعة كتابة هذه السطور، عمليات التغيير مستمرة من أجل حصول كامل الاجتثاث لنظام فاسد أهلك الحرث والنسل كثيراً، وزرع الخوف والرعب طويلا، الذي لم يتعظ مما جرى لغيره، فحدث له ما حدث وما زال يحدث بفضل الله.

القيادات وضبط الإيقاعات الجماهيرية

خلاصة القول ولكي لا يحيد أي فوران وهيجان شعبي ضد الفساد والظلم عن طريقه، لابد من قيادة مخلصة حكيمة، توجّه وتهذب وتنظّر، وتحاول ضبط الإيقاع الجماهيري، والتحذير في الوقت نفسه من القوى المتربصة بها، وإلا فإن النتائج غالباً تكون كارثية لو تُرك الحبل على الغارب، أو انشغلت القيادات بخلافات بينية أو هامشية، وسيتضرر منها الثائرون ربما أكثر من المُثار عليهم، الذين بحكم خبراتهم وارتباطاتهم بالخارج أو خلاياهم الداخلية النائمة، قادرون في وقت معين على إحداث فُرقة أو ثغرة في المد الثوري عبر ما تسمى بالثورة المضادة، التي تكون مهمتها الرئيسية امتصاص الصدمة، والبدء بتفتيت القوى والقيادات الثورية بوسائل عدة، بمعية خارجية انتهازية، كي تمكّن النظام من العودة..

انشغال القيادات بالهوامش وصغائر الأمور، وعدم التنبه إلى دخول من يهمهم استمرار الأوضاع الفاسدة ضمن المنتفضين بصور شتى، من شأنه تعطيل حركة اجتثاث الظلم والفساد، وبالتالي تعطّل حركة البناء والإصلاح. وما انتفاضات الربيع العربي، باستثناء السورية حتى الآن، سوى أمثلة حية بارزة يمكن تأملها والاستفادة من أخطائها، وفي التاريخ دروس وعبر.

د. عبدالله العمادي – الشرق القطرية

اضغط هنا للانضمام لقروبات كوش نيوز على واتساب

قروبات كوش نيوز الإضافية



اسماء عثمان

محررة مسؤولة عن تغطية الأحداث الاجتماعية والثقافية، ، تغطي القضايا الاجتماعية والتعليمية مع اهتمام خاص بقضايا الأطفال والشباب.
زر الذهاب إلى الأعلى