لسنوات طويلة كنت أعرفه وأتحاشاه، وأختبئ منه خلف القصص والروايات وحكايات المساء الممتعة التي أُفرغ فيها كل تفاصيل النهار وهمومه.
تعلمت جيداً كيف أغلق أبوابي في وجهه، وأحمي صغاري منه، وأوصد عقلي وقلبي عن عالمه الممتلئ بريقاً ولمعاناً.
أدركت مبكراً ذلك الفخ الذي نحوم حوله، وأنه مصيبنا لا محالة، فآثرت تأجيل الوقوع في براثنه حتى قالها لي أكبر أبنائي قبل 10 سنوات: «أمي تحتاجين إلى أن تتكيفي وتتأقلمي، ما نفع ما أبقيتِ حولك من سياج وحصار»، يا الله هل ابتعدت بهذا القدر؟
لوقت طويل حرصت على أن يكون هاتفي عادياً، لا ذكياً، أكتفي منه بسماع صوت أمي، وأخبار إخوتي، وإنجاز مهام عملي التي لم تكن تتطلب وقتها أكثر من تحديد موعد أو تأجيله.
وأخيراً سمحت لذلك اللص اللطيف بأن يسرق الوقت، فلم يعد النهار طويلاً كما كان، ولم يعد الليل حالماً هادئاً، وتغيرت معه كثير من الأفكار والعادات، وبات وجوده أساسياً في كل تفاصيل عملي ويومي. وبقدر سخطي من ذلك الانشغال المملوء فراغاً، بقدر ما يُحكم هو قبضته عليّ تارة بحجة «آخر الأخبار»، وتارة أخرى بالتواصل مع العالم من حولي، وبعد كل جلسة طويلة تنتهي بالملل أتأكد أنه حان وقت التغيير.
أعلم أنه من الصعب علينا جميعاً فكرة تنظيم التعامل مع الهاتف وتحديد وقت له، خصوصاً لمن يعملون في وظائف ومجالات تستوجب مطالعته على مدار اليوم، لكن الثمن هو أعمارنا وسنوات جميلة من صحتنا وإقبالنا على الحياة، تُهدر في الجلوس أمام شاشة صماء.
تقول صديقتي: «قررت الذهاب للبحر كل صباح مبكراً وعاهدت نفسي ألا أتصفح هاتفي قبل منتصف النهار ولمدة لا تزيد على نصف ساعة، بعد أن أكون أنجزت العديد من المهام، واتفقت أنا وزوجي على أن نترك معاً هواتفنا عند عودتنا من العمل إلى ما بعد موعد نوم ابني الصغير، بعد أن لاحظنا عزوفه وابتعاده عنا بسبب انشغالنا الدائم بها. وبعد مرور شهر على التجربة وجدت تغييراً كبيراً في حياتنا، وفي علاقتنا بطفلي، وحتى على مستوى هدوء أعصابنا، وعودة كل منا للحديث بشغف مع الآخر، فقررنا استبعاده تقريباً من حياتنا إلا للضرورة القصوى».
الهواتف الذكية لصوص ذكية تسرقنا من أنفسنا ومن أوقاتنا، وتحرمنا الحياة التي تتوافق مع طبيعتنا التي خلقنا الله عز وجل عليها، ومن الظلم أن نترك أعمارنا رهن لصّ مهما كان لطيفاً.
أمل المنشاوي – الإمارات اليوم