هل تعتقد أن الحروب الحاصلة في المنطقة هي مجرد سجالات مسلحة، وعلاقات فائقة التوحش والدموية بين أطراف الصراع، طرف يعتدي، وآخر يتم الاعتداء عليه، طرف يرد، والآخر يتحضر لحصار وقذف جديد، هكذا فقط؟ الحرب وحش حقيقي، قال عنها الشاعر والأديب الفلسطيني إبراهيم نصر الله: «لم يخلق الله وحشاً أسوأ من الإنسان، ولم يخلق الإنسان وحشاً أسوأ من الحرب!».أعتقد أن أخطر وأكثر ما تضمره الحرب من توحش، بعد إزهاق الأرواح، هو محو الذاكرة، وإبادة الوجدان الجمعي للأفراد والجماعات والمدن! فكيف يتم محو الذاكرة في الحروب؟ تأملوا كيف تقصف إسرائيل مدناً ومناطق وأحياءً تاريخية في فلسطين وبيروت وجنوب لبنان، مدناً بتاريخية وعراقة وقِدم بيروت، وصور، وبنت جبيل،.. إلخ، وكيف تمحو عمراناً عتيقاً وحضارة كاملة: بناياتٍ وأحياءً ومدناً! هل نعي على وجه الدقة ماذا تشكل هذه المباني؟ هذه البيوت والشقق والحدائق والأحياء والشوارع والدكاكين والأسواق الشعبية والأزقة والمتاحف المتخصصة والمكتبات والمراكز الثقافية في القرى والبلدات الفقيرة الصغيرة والأحياء؟ وأي ذاكرة وتاريخ تضم؟ إنها تضم ذاكرة الناس، علاقتهم بأرضهم، بحقولهم وبحرهم وأنهارهم، احتفالاتهم وأعيادهم، حياة الجدات والأجداد، ذكريات الآباء والأمهات، بيوت الجيران، ولادات الأطفال ولعب الصغار وشقاواتهم، والتاريخ الشخصي لكل فرد في العائلة، وفي الحي والمدينة، سجل أيامهم: تواريخ ميلادهم أرقام هواتف أصدقائهم، أسماء الحبيبات ودواوين الشعر والروايات الرومانسية، النجاحات الأولى للصغار، تخرجهم من الثانوية ودخولهم الجامعة، حبهم البكر، ووظيفتهم الأولى، شقاء الأمهات وكدح الآباء، السهرات والزيارات العائلية، والكتب الفكرية، ومناشير النضال أيام الاندفاع والأيديولوجيا.. كل هذا يتم تدميره بصاروخ حقير، وبضغطة زرٍ ممن لا يفهم معنى الأرض والانتماء والتاريخ!
الجنود يحرقون الأرض متبعين استراتيجية الأرض المحروقة كي تندفع دباباتهم بسهولة في أرض مكشوفة، لكن الرصاص والصواريخ والقذائف والقنابل تبيد البشر، وتمحو الذاكرة من جذورها، تبيد عائلات كاملة بمساكنهم وأحيائهم، وفي لمح البصر، ثم يدّعون الديمقراطية والسلام، أي سلام؟ وكيف يجرؤ الذين يسرقون الجغرافيا، ويبيدون الأرواح ويمحون الذاكرة، ويدوسون وجه الحياة كل لحظة أن يتحدثوا عن الديمقراطية؟
عائشة سلطان – صحيفة البيان