تعود الإثيوبيون فى المناظرات التى تجمعنا بهم، سواء فى الفضائيات أو المؤتمرات الدولية، أن يرددوا هذا السؤال، ظنًا منهم أنه يحرجنا أمام العالم بالقول من حدد لكم ٥٥.٥ مليار م٣ سنويًا؟!. الإجابة ببساطة أن من حدد حصة مصر هو الخلق الطبيعى للنهر وطبيعة الانحدار من بلاد المنبع إلى مصر دون أن نمنع أحدًا من استخدام مياه وموارد النهر قبل أن تنساب لمصبها فى مصر. فتستطيع إثيوبيا استخدام مياه روافد الأنهار التى تنبع من أراضيها، وهى النيل الأزرق وعطبرة والسوبات ومعها بحيرة تانا، وألف مليار من الأمطار أعطتها المراعى الطبيعية التى تنتج ١٠٠ مليون رأس من المواشى مقابل ٦ ملايين فقط فى مصر، وتنتج ٣٥ مليون هكتار أرضًا تزرع فعليًا، مقابل ٣.٥ فقط فى مصر. فحصة مصر من مياه النيل هى متوسط كميات المياه التى تعودنا أن تصل إلى أراضينا منذ بدء الخليقة وعبر آلاف السنين. هذا الأمر وصفته الأمم المتحدة فى قانون الأنهار العابرة للحدود باسم الحقوق المكتسبة «Accepted Rights» ولها قوة القانون، لأن دول المصب قد رتبت حياتها ومختلف أنشطة اقتصادها على ما تعودت استلامه من مياه عبر المجرى الطبيعى للنهر، وبالتالى فليس من حق أحد أن يغير من حجم تدفقاته، وأن يحترم الحقوق المكتسبة لدول المصب، والتى أصبحت واقعًا بقوة القانون.
ولأن مصر عادلة فى علاقتها مع شركاء النهر، فقد أخذت متوسطات المياه التى تصل إلى أراضيها عبر المائة عام الماضية، حيث بلغت كميات المياه التى وصلت إلى مصر فى إحدى فيضانات عشرينيات القرن الماضى إلى ١٢٤ مليار م٣ فى السنة، وكانت مصر تستطيع أن تتخذ هذا الرقم مرجعًا لتحديد حصتها، ولكنها طبقت دورة النهر التى تتغير كل عشرين عامًا بسبع سمان وسبع عجاف وست فى المتوسط، وبالتالى خرج الرقم لكامل تدفقات نهر النيل، وهو ٨٤ مليار م٣، تقسم بين مصر والسودان (تصرف النهر هو كمية المياه التى تصل سنويًا إلى دولة المصب).
أما كيف جاء الرقم ٥٥ مليار م٣، ففى عام ١٩٢٩ تبادل رئيس الوزراء المصرى وقتها خطابات مع المندوب السامى البريطانى، الذى كان يحتل مصر ودول منابع النيل الأبيض المطلة على بحيرة فيكتوريا أوغندا وتنزانيا وكينيا، بشأن تأمين احتياجات مصر من مياه النهر بما يكفى لرى أراضيها وكفاية شعبها. وبعد مباحثات بين المندوب البريطانى وقيادات الدول الثلاث ومصر استقر الرأى عن قناعة بأن الأراضى السمراء التى تكونت من طمى مياه النيل من حقها أن تروى بمياه النهر. ولما كانت مساحة الأراضى الزراعية السمراء فى مصر- وقتها- نحو ٧ ملايين فدان، وأن الفدان يروى سنويًا بنحو ٧ آلاف م٣، وبالتالى تحتاج نحو ٤٨.٥ مليار متر مكعب سنويًا، وقدر للأراضى السودانية، والتى كانت دولة واحدة وغنية فى الأمطار، خاصة فى الشرق والجنوب، والعديد من الأنهار فى جنوب ووسط السودان، مثل أنهار الغزال والزراف وبحر العرب وبحر لولو وبحيرة «نو»، ومستنقع السد Sudd بسعة ٣٠ مليار متر مكعب، فقدر للسودان حصة ٤.٥ مليار م٣ من المياه التى تجرى بين ضفتى النهر.
ونظرًا لأن مياه النهر التى تأتى من المنبع الحبشى لإثيوبيا وإريتريا، بمتوسط ٧١ مليار م٣ تأتى موسمية وهادرة خلال شهور الصيف، وتتوقف خلال شهور الشتاء نظرًا لكونها تأتى من منسوب ١٨٢٠ م وصولًا إلى البحر المتوسط عند منسوب صفر، فإنها تهدر نحو ٢١ مليار متر مكعب من مياه النهر صيفًا، تنحدر سريعة إلى البحر المتوسط دون استفادة منها. لذلك عزمت مصر على بناء السد العالى لإنقاذ هذه المياه المهدرة فى البحر ولتخزين المياه فى مواسم الفيضان العالى لاستخدامها فى سنوات الجفاف. ولأن بحيرة هذا السد ستمتد لنحو ١٥٠ كم داخل الأراضى السودانية فكان لا بد من موافقة السودان، والتى احتاجت عدة سنوات حتى وافقت عام ١٩٥٩، على أن تأخذ القدر الأكبر من المياه التى سيوفرها السد، حيث تم تقسيمها بحيث تحصل مصر على سبعة مليارات فقط، وأن تحصل السودان على ١٤ مليارًا، لترتفع حصة مصر من مياه النهر بما أقرته دول المنابع بنحو ٤٨.٥ مليار، بالإضافة إلى ٧ مليارات فقط عائدًا من بناء السد العالى إلى ٥٥.٥ مليار م٣، وارتفعت حصة السودان إلى ١٨.٥ مليار م٣ سنويًا. وعلى الرغم من أن بناء السد العالى لم يضر أحدًا من دول المنابع، إلا أن إثيوبيا تقدمت بشكوى إلى مجلس الأمن والأمم المتحدة تشكو من قيام مصر ببناء السد العالى دون موافقة إثيوبيا وكأنها تظن أنها مالكة النهر!!، ويبدو أن إثيوبيا كانت تفضل أن تذهب مياه النيل العذبة إلى المياه المالحة للبحر المتوسط خير من أن يستفيد بها الشعب المصرى. وعمومًا جاء خبراء الأمم المتحدة وأنصفوا السد وقالوا إنه أعظم مشروعات القرن العشرين، وإنه لم يضر أحدًا، ولكنه أفاد شعبى مصر والسودان. وقتها خرج الإمبراطور الإثيوبى هيلاسيلاسى يتوعد مصر بأنه سيأتى زمن يقيمون فيه سدودًا فى إثيوبيا تحول سد مصر إلى مجرد حائط!!؟. ولا ندرى سر كل هذه الكراهية غير المبررة لسد لم يضر إثيوبيا ولا غيرها.
ثم دأب المتحدثون الإثيوبيون على القول بإن السودان دولة ممر ومصر دولة مصب، وهم لا يساهمون فى مياه النهر بحصص محسوسة ومع ذلك يحصلون على المياه التى تجرى بين ضفتى النهر، وكأن إثيوبيا هى المسؤولة عن توزيع مياهه وليس الخلق الطبيعى للنهر ولا انحداره، وكأنهم يستمطرون السحاب بأمرهم، وكأننا فى مصر والسودان شققنا النهر ليصل إلينا، فلا فضل لهم أنهم دولة منبع، ولا عيب علينا أننا دولتا مصب، ومن العار أن يدعوا أن مصر هى هبة إثيوبيا وليست هبة النيل، والحقيقة أن كلًا من مصر وإثيوبيا هبة الخالق، والدليل أنه فى السنوات العجاف للنهر فى القرن الماضى لم تستطع إثيوبيا إنقاذ حياة من ماتوا من القحط ونقص المياه، والغريب أيضًا أن دولة التسعة أحواض أنهار ومئات الروافد لم تستطع نقل المياه داخل أراضيها من نهر لآخر لإنقاذ المتضررين، ومع ذلك تخدع دول منابع النيل الأبيض الست بأن اتفاقية عنتيبى ستعيد توزيع حصص المياه بنقل المياه بين دول المنابع عكس الانحدار، والأغرب أنهم صدقوها بحسن نية دون أن يفطنوا إلى أطماعها فى المياه التى تخرج من أراضيها متخفية ومستترة بدول منابع النيل الأبيض للغدر بمصر والسودان!!.
يسقط على دول منابع النيل الأبيض ألف مليار م٣ من الأمطار، ومثلها على إثيوبيا، يصل منها إلى مجرى النهر ٨٤ مليارًا فقط بنسبة أقل من ٥٪، بينما هم يحصلون على ٩٥٪ أمطار وبحيرات عذبة فى تانا وفيكتوريا وكيوجا وألبرت وجورج وإدوارد، وتشحن لهم المياه الجوفية بالمليارات وتخرج المروج وتنتج ثروة حيوانية ضخمة وزراعات عضوية يتم تصديرها، ومع ذلك يتركون كل موارد النهر وينظرون فقط إلى ما يجرى بين ضفتى النهر ويطمعون فيه دون النظر إلى احتياجات المصريين، رغم أن لديهم عشرات الأنهار والروافد والبحيرات والأمطار.
نادر نورالدين محمد – المصري اليوم