إثبات مسائل الاعتقاد بين النقل والعقل
لقد كانت مسائل الاعتقاد في القرون المفضلة تُستقى وتُثبت من خلال الوحي المتمثل في الكتاب والسنة، لا يتجاوزهما المسلمون إلى غيرهما، فإنما يقوم الإسلام على الاتباع والاستسلام لله، فإن ثبت الخبر من السماء فحينئذٍ يكون اليقين والتسليم ولا تكون هناك حاجة للجدل واقتناع العقل عند توهّم التعارض، بل يتهم العبد عقله بالقصور وعدم الإدراك، لا أن يتهم الخبر، مع أن العقيدة بالأساس لا تتعارض مع العقل، فأكمل العقول أكثرها فهمًا للحجج والبراهين التي اشتمل عليها الكتاب والسنة، فالأخبار في الإسلام ليست مجرد روايات تروى بدون برهان.
ولما قامت الفتوحات، واتسعت رقعة الدولة الإسلامية، واحتك المسلمون بالفلسفات المختلفة شرقًا وغربًا، تأثر بها بعضهم كالجعد بن درهم الذي أنكر صفات الله، وتلميذه الجهم بن صفوان مؤسس فرقة الجهمية الضالة.
ومع توسع المعتزلة في الانفتاح على تلك الفلسفات وضعوا علم الكلام القائم على إثبات العقائد الدينية بالرأي والعقل لا النص، وزاد من تغلغل ذلك الاتجاه حركة الترجمة في عهد المأمون العباسي، فاستجلب كتب الفلسفة واعتنق القول بخلق القرآن، فاستخدم المتكلمون بصفة عامة أساليب الفلاسفة اليونانيين في الجدل والمناظرة. نعم إن هذا الأسلوب قد يجدي في مناظرة الملحدين الذين لا يعترفون بوجود الخالق، فتقام عليهم الحجة بالعقل والرأي كما كان يفعل الإمام أبو حنيفة وغيره مع الملاحدة، أما أن تكون وسيلة لإثبات العقائد لدى المسلمين وجعلها منهجا في هذا الباب، فهذا من الضلال المبين، لأنها ببساطة شديدة تُخضع عالم الغيب لعالم الشهادة، حيث يستخدم أهل الكلام مصطلحات عن الذات والصفات الإلهية توضع للأمور المشاهدة مثل الجوهر والعرض والكيفية.
كما أنها تجعل المسلمات العقائدية موضع جدل وشك، مثل قضية إثبات وجود الله التي لا شك فيها، فيأتي هؤلاء المتكلمون ليثبتوا ما استقر في فطرة الناس من وجود صانع للكون، بفرضيات وجدليات تفتح الباب أمام الملاحدة ليشككوا في ذلك، خاصة إذا كانت حجة أهل الكلام غير قوية، فيجد أهل الإلحاد ردا عليها فيؤخذ المنهج الإسلامي بخطأ أتباعه.
لقد فتح هذا المسلك الباب أمام ادعاءات تعارض العقل مع النقل، مع أن العقل الصريح لا يتعارض مع النقل الصحيح، فردوا أحاديث ثابتة متفق على صحتها في الأمة، بدعوى أنها تخالف العقل، وتحولت العقيدة بذلك إلى جدل وقضايا عقلية عارية عن الفائدة الإيمانية .
إنه لمن الخزي أن لا يزال في الأمة من يتبع نهج الفلاسفة والمتكلمين في إثبات العقائد، في الوقت الذي تهاوت فيه الفلسفات اليونانية في الغرب، والتي أسقط العلم كثيرا منها، وأصبح أساطين الفلسفة مجرد شخصيات تاريخية.
إن هذا العقل البشري قاصر على إدراك بعض ما يثبته هو بالعلم، فكيف يستطيع الإحاطة بالغيبيات وإدراكها، كما أن العقول متفاوتة في الفهم والإدراك، وليست معصومة من الزلل، فكيف يتم إثبات العقائد من خلالها؟
الوحي المتمثل في الكتاب والسنة وحده من يثبت مسائل الاعتقاد لأنه معصوم، فإن أخبرنا أن الله ينزل إلى السماء الدنيا آمنا وصدقنا، فإن سُئلنا عن كيفية النزول قلنا كما قال الإمام مالك وغيره: «الاستواء معلوم، والكيف مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة»، فإن كنا لم نر الذات الإلهية، فكيف يمكن إدراك كيفية النزول ؟!
العقل تُفهم به النصوص، وتُدرك من خلاله آيات الله في الكون ، أما أن يُجعل وسيلة لإثبات العقيدة ومعيارا لقبول التشريع، فهذا عمل من ضل سعيه في الحياة الدنيا وهو يحسب أنه يحسن صنعا، والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.
إحسان الفقيه – الشرق القطرية