كم تبدو اللغة الفرنسية عربية
تبدو اللغة الفرنسية وفق هذا الكتاب (أسلافنا العرب: ما تدين به اللغة الفرنسية لهم) عربية، في عمقها الذي لم يتوقف عند حدود المفردات المشتقة منها والمتداولة شفاهة، بل في توغلها ضمن نسيج اللغة الفرنسية، كما تعكسها معاجمها الكبرى وأعمال أدبائها الكلاسيكية.
وعلى الرغم من أن فرنسا الحالية عُرفت قديماً ببلاد (الغال) نسبة إلى الشعب الذي كان يقطن أراضيها ضمن معظم أراضي أوروبا الغربية آنذاك، إلا أن الكلمات الفرنسية التي تعود لأصل «غالي» لا تتجاوز مائتي كلمة مقابل أكثر من خمسمائة كلمة عربية، ما يضع اللغة العربية في مرتبة ثالثة -بعد اللغتين الإنجليزية والإيطالية- في تأثيرها على اللغة الفرنسية، بل وبشكل يفوق تأثيرها في اللغة الإسبانية، رغم مجاورة أهلها للعرب في شبه جزيرة أيبيريا قرابة سبعة قرون. وقد جاء هذا الاندماج بين اللغتين العربية والفرنسية إثر الحملات الصليبية والغزو العربي والتبادل التجاري وحركات الهجرة. لذا، لا يجد الباحث أي مبرر للدهشة في هذا الإثراء اللغوي الذي تمخّض عن قرون طويلة من العلاقات التبادلية، في حين أن للدهشة أن تعتري الفرنسيين وقد كانوا يكررون عبارة «أسلافنا الغاليون» على أسماع التلامذة ذوي الأغلبية العربية في مستعمراتهم القديمة في الشمال الأفريقي، إذ «لم يكن لهم بالتأكيد أن يخجلوا من (أسلافهم العرب)». يتتبع الباحث المسالك التي سلكتها اللغة العربية في هجرتها نحو الفرنسية، عبر الإسبانية والإيطالية والإنجليزية، وهو لا يغفل عن معاينة الجوانب النحوية والصرفية والصوتية والمعجمية فيها. فإضافة إلى الترتيب الهجائي لتلك الكلمات، اعتمد الباحث ترتيباً موضوعياً في تصنيفها بين المفاهيم والعناصر الثقافية والحضارية، حيث يخصص أبواباً للحديث عن النبات والحيوان والعطور والملابس والألوان والأوزان والفنون والموسيقى والمهن والمعمار والمناخ والمعارك والأسلحة والأثاث والأدوات والمذاهب والأديان! فمع هذا العمق الذي يبرز دور اللغة العربية «بما لها من مفاهيم ومضامين» في إثراء اللغة الفرنسية من جانب، فهو يشير من جانب آخر إلى «دلالات حضارية وتاريخية وثقافية وعليمة، شاهدة على مرحلة زاهرة من تاريخ اللغة العربية، كانت خلالها لغة للعلم والتقنيات، ولغة الفكر والحضارة والفن والاقتصاد، واللغة العالمية الأولى بلا منازع». وفي هذا السياق، ينقل الباحث من المعاجم الفرنسية الأولى قول المؤرخ الفرنسي بروزين دو لا مارتينيير: «ليس من شك في أن لغة العرب من أكثر اللغات جمالاً ومن أكثرها قدماً». بيد أن البحث الموضوعي لم يخلُ من عاطفة، حيث حرص الباحث على نشر كتابه قبيل الانتخابات الرئاسية الفرنسية الأخيرة «وبالتالي تشكيله رداً يمزق خطاب الفرنسيين المعاديين للعرب، بكشفه لهم ولغيرهم عمق الإرث العربي لفرنسا الذي يتعذر نكرانه» كما ينقل مترجم الكتاب (أ. د. محمد البقاعي) في مقدمته، وهو أستاذ جامعي يحمل درجة أكاديمية في اللغة العربية وآدابها، بجانب درجة الدكتوراه في علوم اللغة والنقد الأدبي من جامعة ليون الفرنسية. أما عن الباحث، فهو (جان بروفو) أستاذ أكاديمي في اللغة وعلم المعاجم، وعضو معهد اللغة الفرنسية، كما أنه مستعرب، يعرف اللغة العربية ويلحظ تطورها عبر صفوف المهاجرين، ويراقب مدى تأثيرها الحاضر في اللغة الفرنسية كما كان في الماضي. وهو يتطلع إلى إيجاد مستقبل تفاعلي أكثر عملية من الايديولوجية الصماء، لا سيما من خلال تحريضه على ضرورة النهوض واسترداد حيوية اللغة العربية في الثقافة الفرنسية، آخذاً بعين الاعتبار الانفتاح الثقافي والمعرفي كأفضل معركة ضد كافة أشكال التطرف. ففي رحلته المتعمقة في بحر الكلمات العربية التي تزخر بها المعاجم الفرنسية، يعرض كلمات شائعة. فمن الأطعمة «خروب caroube»، ومن الأحجار الكريمة «قيراط carat»، ومن التعاملات المالية «حوالة aval»، ومن المباني «منبر minbar»، ومن الوظائف «قاضي cade». أما الأقمشة الجميلة، فيؤكد «أن مدينة غزة هي أصل الشف المسمى بالفرنسية gaze، وهو نسيج في غاية الخفة والشفافية». وإضافة إلى الفصيح من العربية، فلقد كان للفرنسية نصيب من لهجاتها، لا سيما الدارجة في بلاد المغرب العربي، حيث تمسك مهاجريهم بالتعاطي بلهجاتهم رأساً برأس اللغة الفرنسية، وقد عدّهم الباحث (شركاء في المواطنة) وعدّ تمسكهم ذاك (ثراءً حقيقياً). ومن تلك الكلمات: «ماكانش macache/ شوف chouf».
ثم يسهب الباحث في حديثه عن الدين الإسلامي والقرآن الكريم والحديث النبوي، فيستهل بالمفردات الدينية المتداولة وبيان عملية تطورها وزمن اندماجها مع اللغة الفرنسية. فهناك «العالِم ‹ālim والإمام l›imam والمؤذن muezzin». وعن الأخير، فينقل قول شاعر القرن التاسع عشر الفرنسي ألفونس دو لامارتين: «كان وقت الظهيرة. الساعة التي يراقب فيها (المؤذن) الشمس من أعلى شرفة في المنارة ليعلن حلول موعد الصلاة في كل الأوقات. صوت رخيم، شجي يعرف ما يقول وما يصدح به».
وأختم كما ختم المُعجمي الفرنسي كتابه، نقلاً عن المعجم الفرنسي (هاشيت للشباب-1986)، حين أورد مثالاً مباشراً لاستخدام كلمة (عرب) في جملة: «آلان يتحدث العربية بطلاقة»، وقد اعتبره المعجمي «مثال يستحق التأمل». إنه بالفعل كذلك، بل ومدعاة للعرفان بالجميل، لكل من العرب والفرنسيين، تجاه (أسلافنا العرب).
مها الغيث – الشرق القطرية