أيّهما أحبّ إلى إبليس: البدعة أم المعصية؟
شاركتْ عديد الصفحات على مواقع التواصل، قبل أيام، في ذكرى المولد النبويّ، كلاما لبعض المنسوبين إلى الطائفة المدخلية المتشدّدة يقول فيه: “لَأَنْ أزني وأشرب الخمر -عياذا بالله- أحبّ إليّ من أن أحتفل بالمولد النبويّ”، ويقول أيضا: “إلى التجار الذين يبيعون الشّموع والأشياء الخاصّة بالمولد: اتّقوا الله في تجارتكم. لأنْ أبيع الخمر والمخدّرات أهون من أن أبيع هذه الأشياء”!
صحيح أنّ هذا الكلام -الذي لا يمكن أن يقبله مسلم عاقل- لا يتبنّى محتواه أغلب المداخلة، لكنّه -عند التأمّل- نتيجة حتمية لمنهج أسس على الغلوّ في باب البدعة وفتْحِ مصراعيه ليدخل منه كلُّ ما لم يُعلم دليله، وتُحشر فيه كثير من مسائل الأحكام الخلافية، حتى جزم أتباع هذا المنهج -من دون تردّد- ببدعية قنوت الفجر ودرس الجمعة ورفع اليدين بالدّعاء بعد الصّلاة وقول “جمعة مباركة” والدّعاء للميت جماعة بعد دفنه… وقد بلغ الغلوّ ببعضهم إلى أنّهم صنّفوا من يفعل شيئا من ذلك “مبتدعا”، وكانوا يحكمون على الأئمّة الذين يقولون بمشروعية تلك الأقوال والأفعال بأنّهم مبتدعة ويحذّرون منهم ويهجرونهم، في الوقت الذي تجدهم يكلّمون بائعي المحرّمات والمخدّرات ويضاحكون المرتشين والمرابين! بل قد ظهرت في السّنوات الأخيرة شنشنة غريبة بين بعض الشّباب المنفلتين، حيث تسمع قائلهم يقول: “أنا أتعاطى المخدّرات والخمر وأخادن النّساء، لكنّي –ولله الحمد- على التوحيد والسنّة ولستُ مبتدعا”، وهذا الكلام تلقّاه هؤلاء الشّباب من المداخلة الذين يغرون الأغيار من شبابنا بأن يتبنّوا الفكر المدخليّ حتّى يكونوا من “الفرقة الناجية” ويسلموا من بدع الإخوان المسلمين التي هي شرّ وأخطر من كبائر الذّنوب!
مكمن الخطورة في هذا الفكر أنّه يُستغلّ الآن للتّهوين من الانفلات المستشري في بعض بلاد المسلمين، في مواسم الرقص والغناء، بحجّة أنّه لا يعدو أن يكون معاصٍ، وفي أسوأ الأحوال كبائر، هي في ميزانهم أهون من البدع.. وينبني على ذلك عندهم أنّ من يحضر حفلات الغناء والرقص أقلّ إثما ممّن يحتفل بالمولد النبويّ! ولا يبعد أن نسمع منهم في قابل السّنوات قولهم إنّ حفلات هزّ البطون والأرداف خير ممّا يفعله المرابطون في أرض الرباط، لأنّ جهادهم غير صحيح لم يُفت به “كبار العلماء”، ولأنّهم –أي المجاهدين- ليسوا من الفرقة النّاجية!
منشأ هذا الغلوّ الذي آل إليه المداخلة، هو سوء فهم وإساءة تطبيق لعبارة رويت عن الإمام سفيان الثّوري –رحمه الله- يقول فيها: “البدعة أحبُّ إلى إبليس من المعصية”، وعلل ذلك بأن المعصية يتاب منها، خلافا البدعة.. وكلام الإمام الثّوريّ لا شكّ في أنّه صحيح وصادق في حقّ البدع المغلّظة التي ترتبط بالعقائد وتشذّ بأصحابها عن سواد الأمّة، لكنّه لا يصحّ ولا يصدق في حقّ البدع التي تتعلّق بالأحكام، فضلا عن أن يصدق في المسائل التي اختلف فيها العلماء.. وعلى هذا يُحمل الذمّ الوارد في كلام أئمّة السلف في حقّ المبتدعة والتحذير منهم، فهو لا يتوجّه إلى أصحاب البدع المخففة فضلا عن أن يتوجّه إلى من يخالفون في بعض المسائل التي تتفاوت فيها الأنظار والتقديرات.. فمِن الجهل أن يقال إنّ كلّ بدعة هي أشنع وأحبّ إلى إبليس من كلّ معصية، ولو كانت المعصية فجورا وكانت البدعة مخففة! ومن الإجرام في حقّ الدّين وأهله أن يقال –مثلا- إنّ الدّعاء للميّت جماعة بعد الدّفن أحبّ إلى إبليس من الزّنا وشرب الخمر! يقول شيخ الإسلام ابن تيمية –رحمه الله-: “وجنس البدع، وإن كان شرًا، لكنّ الفجور شر من وجه آخر، وذلك أنّ الفاجر المؤمن لا يجعل الفجور شرًا من الوجه الآخر الذي هو حرام محض، لكن مقرونًا باعتقاده لتحريمه، وتلك حسنة في أصل الاعتقاد، وأما المبتدع: فلا بد أن تشتمل بدعته على حق وباطل، لكن يعتقد أن باطلها حق أيضًا، ففيه من الحسن ما ليس من الفجور، ومن السيئ ما ليس في الفجور، وكذلك بالعكس”. نعم، يمكن القول إنّ بدعة مثل بدعة سبّ الصحابة وتكفيرهم واتّهامهم في دينهم، شرّ من شرب الخمر واقتراف الزّنا.. لكنّ هذه الكبائر لا يمكن بحال أن تكون شرا من الاحتفال بالمولد النبويّ أو الذّكر الجماعيّ، على فرض التسليم بأنّهما بدعتان يأثم فاعلهما! فعلى شباب الأمّة أن يكونوا على بيّنة في هذا الأمر، حتى لا يساقوا إلى مضايق يتبنّون فيها قناعات شاذّة تجرّئهم على كبائر الذّنوب وتمنّيهم النّجاة ما داموا لم يقعوا في الشّرك والبدع!
سلطان بركاني – الشروق الجزائرية