أزمة الديمقراطية والدعوة إليها
الديمقراطية فى العالم فى أزمة. فى البلاد ذات النظم الديمقراطية الراسخة، انتكست الديمقراطية وتراجعت ممارستها. التراجع هو فى التفاعل بين آليات النظام الديمقراطى ومؤسساته، بسبب التشبث بوضع قائم رغم لفظ قطاعات واسعة من المواطنين له، فضلا عن تزايد وزن تيارات قديمة معادية للديمقراطية أصلا. والانتكاس هو فى مواقف القائمين على النظم الديمقراطية من انتهاكات صارخة للقيم الإنسانية، كما هى الحال إزاء مأساة غزة، وهو ما يمكن تفسيره بالاستعلاء الاستعمارى وبآثار جماعات الضغط على عمل النظم السياسية. ومع ذلك، فإن الأزمة لم تنل من سلامة الدعوة إلى الديمقراطية.
فرنسا تشهد آخر تجليات التراجع والانتكاسة، وفيها يتفاعل التشبث بالوضع القائم مع آثار تزايد الوزن النسبى للاتجاهات المعادية للديمقراطية. الرئيس الفرنسى، إيمانويل ماكرون، حلّ الجمعية الوطنية فى شهر يونيو الماضى ودعا إلى إجراء انتخابات عامة خسرها تياره، جرت فى الأسبوع الأول من يوليو الماضى. هو أولاً استغرق من الزمن شهرين حتى كلف أحدهم بتشكيل الحكومة. بعد إعلان نتيجة الانتخابات، كان التبرير لعدم الخوض فى مداولات وتجاذبات تشكيل حكومة جديدة هو تنظيم الألعاب الأوليمبية. طالما كانت فترة الألعاب غير مناسبة لتشكيل حكومة جديدة، تساءل المراقبون، فلماذا حلّ الرئيس الفرنسى الجمعية الوطنية فى أوائل يونيو الماضى ودعا أصلاً إلى انتخابات عامة جديدة. وهم تعجبوا لماذا يدعو إلى انتخابات عامة خسارة تياره فيها مؤكدة وصعود أقصى اليمين الشعبوى ليس أقل تأكيدا!
أحزاب اليسار وحماية البيئة تآلفت فيما سمى «الجبهة الشعبية الجديدة»، فى إحالة إلى «الجبهة الشعبية» التى فازت بانتخابات سنة 1936 وشكلت أول حكومة يسارية فى ظل الجمهورية الفرنسية الثالثة. الجبهة الشعبية الجديدة اقترحت أسماء لرئاسة الحكومة فلم يقبل الرئيس الفرنسى أيا منها حتى بعد أن أعلن أكبر الأحزاب فى الجبهة، «فرنسا المتمردة»، المأخوذ عليه تطرفه، ذو الزعيم الذى يراه البعض استفزازيا، عدم تمسكه بالاشتراك فى الحكومة.
عمل الرئيس الفرنسى على تقسيم الجبهة، على أساس الاختلافات بين مكوناتها، خاصةً بين «فرنسا المتمردة» والحزب الاشتراكى، ولكنه لم يفلح إذ ارتكب أخطاءً تكتيكية حيث اتصل بشخصية اشتراكية غير مقبولة للحزب الاشتراكى نفسه وفى نفس الوقت تشاور مع زعيمة «التجمع الوطنى»، التى لم تقرّ دعوة هذا، وإن كان من اليمين، وأقرت دعوة ذلك، فجعل منها، ومن أقصى اليمين الحَكَم فى تشكيل الحكومة. أقصى اليمين كان إلى عقد من الزمان منبوذا فى النظام السياسى الفرنسى، وهو على خصومة تاريخية متجذرة مع الديمقراطية، وإن حاول إصلاح صورته بتغيير اسم تنظيمه السياسى وبتهذيب خطابه. المحصلة كانت أن الرئيس الفرنسى التف حول نتيجة الانتخابات ودعا شخصية من اليمين التقليدى، من الاتجاه الديجولى الذى خبا ليصبح أقلية داخل اليمين بكل أطيافه، بعد أن كان ذا شأن.
صحيح أن الدستور الفرنسى لم ينص صراحة على دعوة ممثل عن الحزب أو التآلف الحاصل على الأغلبية المطلقة أو النسبية إلى تشكيل الحكومة ولكن هذا مبدأ أساسى فى الديمقراطية التمثيلية تجاهله الرئيس الفرنسى. احتج الرئيس الفرنسى بأن الدستور يكَلِّفه بأن يَكفُل اضطلاع الدولة بوظائفها وهو ما ليس من شأنه أن يحدث إن هو كلف ممثلة أو ممثلاً عن الجبهة الشعبية الجديدة. نواب أقصى اليمين واليمين سيسقطون هذه الحكومة حتى من قبل أن تبدأ فى أعمالها بطرح الثقة فيها ثم برفضهم منحها إياها. ولكن هذا هو تماما ما يمكن أن يحدث لرئيس وزراء من اليمين. سوف يسقطه تحالف موضوعى بين اليسار وأحزاب البيئة من جانب، وأقصى اليمين، من جانب آخر، إذا رفض مثلاً اقتراح التجمع الوطنى بإلغاء قانون إصلاح المعاشات التعاقدية الصادر فى العام الماضى والذى يتمسك به الرئيس ماكرون. وإن هو نجح فى ضم وزراء من اليسار ضد رغبة الجبهة وأقصى اليمين فسيسقطونه أيضا. أما إن نزل على رغبات أقصى اليمين، فسينتقل الاحتجاج إلى الشارع، بما يعرقل اضطلاع الدولة بوظائفها. الاحتجاج فى الشارع سيكون الدافع إليه تجاهل أصوات الملايين التى صوتت للجبهة الشعبية بسبب معاناتها فى حياتها اليومية، واحتجاجات أصحاب السترات الصفراء منذ بضع سنوات ما زالت عالقة بالأذهان.
تجلى آخر لانتكاسة الديمقراطية وتراجعها هو التعدى على حرية التعبير وعلى حق الناس فى الحصول على المعلومات. أنباء الحرب فى غزة، أو اختفاء هذه الأنباء، من قنوات التلفزيون ومن محطات الإذاعة الفرنسية، خير مثال على ذلك. حتى القنوات الأمريكية الدولية أكثر نشرا لهذه الأنباء. يصعب تصور أن هذا الاختفاء حدث تلقائيا بدون تدخل من أحد، فالقنوات تزدهر على نشر مثل هذه الأنباء إن وقعت فى أى مكان.
فى الولايات المتحدة، ترتيبات تمويل العمليات الانتخابية وحملاتها تفرغها من مضامينها الديمقراطية. حملتا مرشحى الحزبين الرئيسيين فى الانتخابات الرئاسية تنفق مئات الملايين من الدولارات من أجل الحث على انتخاب واحد منهما. جماعات المصالح من جانبها تنفق ملايين أخرى من أجل انتخاب المرشح أو المرشحة المتفق أو المتفقة مع أهوائها. هذا الإنفاق الهائل يؤثر على حرية الاختيار ويؤدى إلى توجيهه ناحية مصالح من يقوم بالإنفاق.
قريبا من اهتماماتنا المباشرة، ومن الصراع الفلسطينى – الصهيونى تحديدا، اللجنة الأمريكية الإسرائيلية للشئون العامة (إيباك) أنفقت أربعة عشر مليون دولار فى الانتخابات التمهيدية للحزب الديمقراطى فى إحدى دوائر ولاية ميسورى من أجل هزيمة النائبة كورى بوش، المساندة للشعب الفلسطينى، واستبعادها من المنافسة الانتخابية مع مرشح الحزب الجمهورى. أموال بقيم مشابهة أنفقت فى بعض الدوائر بحظوظ مختلفة بغية إبعاد أى صوت يسائل فى السياسات الإسرائيلية عن عضوية الكونجرس الأمريكى.
أثر ما يسمى فى الولايات المتحدة بجماعات المصالح الخاصة طال الجامعات الأمريكية فى السنة الأخيرة فاضطرت رئيسات وأساتذة عدد من كبرياتها إلى الاستقالة، وضاقت حرية التعبير على طالباتها وطلابها، وتعرضت مواقفهم وأقوالهم لرقابة ومتابعة خفيتين هددتهم فى مستقبل كل منهم. حرية التعبير قيمة جوهرية فى الديمقراطية.
• • •
فى المملكة المتحدة، علقت هيئة الإذاعة البريطانية ظهور ستة من صحفييها على موجاتها بدعوى بثهم تغريدات على حساباتهم الشخصية فيها نقد لإسرائيل فحاكت بذلك نظما سلطوية تراقب مواطنيها على وسائط التواصل الاجتماعى. الرقابة والتضييق على حرية الأكاديميين فى التعبير وصل إلى الجامعات البريطانية أيضا، بما فى ذلك إلى مديرة واحدة من كبرياتها، التى أبعدت عن عدد من وظائفها. فى هذه الحالة بالذات اختلطت ملاحقة أوجه التعاطف مع الشعب الفلسطينى مع العنصرية، كون المديرة صاحبة بشرة سوداء.
فى الديمقراطيات التمثيلية غير الليبرالية، كما يوصف النظام السياسى فى المجر مثلا، يختلط التقويض العلنى غير المخفى لطرائق عمل النظم الديمقراطية، مع التأييد المطلق لجرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية المرتكبة بحق الشعب الفلسطينى وهو ما لا يستقيم مع قيم الديمقراطية، وفيه تقويض لها.
هل معنى ما تقدم العزوف عن الديمقراطية، واعتبار أن لا خير من ورائها؟ ليس هذا هو المقصود مطلقا. لا يوجد شىء فى اجتماع البشر يتحقق بشكل مطلق، أى تجتمع فيه خصائص وضعه المثالى بنسبة مائة فى المائة. أمثلة تقويض الديمقراطية التى استعرضناها معناها أن هناك تراجعا فى ممارستها إن استمر فهو يعرض النظام الديمقراطى برمته للخطر. غير أنه وحتى الوقت الحالى، ما زالت الميزانيات تناقش فى برلمانات الدول المذكورة، ويرفض أعضاء فيها بنودا تقترحها الحكومات ويقدمون بدائل لها. والرأى العام والمتخصصون وأعضاء البرلمان أيضا يتداولون ويختلفون حول التوجهات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية حتى يسود رأى من بين آرائهم، وهو رأى غير مؤبد، استمرار الأخذ به محكوم بما يحققه للمواطنات والمواطنين وتكلفته عليهم. الشئون المحلية على مستوى الأقاليم، مثل المحافظات عندنا، والمدن والمراكز والأحياء والقرى، تحكمها الديمقراطية كما يمارسها ممثلو السكان فى هذه الوحدات من أكبرها إلى أصغرها، مساحةً وسكانا. قرارات هؤلاء الممثلين تصدر بما يكفل أكفأ استخدام للموارد المتاحة ويحقق أفضل بيئة معيشية للسكان فى والوحدات المحلية التى يعيشون فيها.
أن يقوضَ الديمقراطيةَ المسئولون عنها فى البلدان الديمقراطية نفسها هو خسارة لها ولهم. الديمقراطية نتاج لتطور بشرى وهى ليست ملكا لهم ولا لبلدانهم. من حقنا بل من واجبنا أن نكشف اعوجاج الممارسة الديمقراطية فى أى مكان وأن ندلى بدلونا لتقويمها. ولكن الديمقراطية هى المنهج الذى يكفل التصدى بكفاءة لقضايا المجتمعات ومنها مجتمعنا.
فى بدايات القرن التاسع عشر وبعد أن كانت الثورة الفرنسية قد ألغت العبودية فى مستعمراتها، أعاد نابليون العمل بها. يحكى عن واحد من زعماء ثورة هايتى عندئذ أنه قال إنهم، أى الهايتيون، أقرب إلى مثل الثورة الفرنسية من الفرنسيين أنفسهم.
إبراهيم عوض – أستاذ السياسات العامة بالجامعة الأمريكية بالقاهرة – الشروق نيوز