ليبيا الشقيقة: إخوة متشاكسون، وأعداء متكالبون
ويح جسمنا العربي، كم ذا يكابد من الآلام، وكم ذا يعاني من ألوان السقام؟ فهو الذي قد أنهكه الجرح النازف في قلب أمتنا، فلسطين، وهو الذي يتأوه من جنبيه الراجفتين في لبنان وفي اليمن، وهو الذي يُسام خسفا في السودان من تقاتل أبنائه، وهاهو جرح آخر يفتح في جسمنا العربي، من ظهره في ليبيا الشقيقة.
ويصدق على جسمنا العربي ما قاله أبو الطيب المتنبي:
أبنتَ الدهر، عندي كل بنتٍ فكيف، وصلت أنتِ من الزحام
نعم، ففي زحمة المعاناة الشديدة هذه، يفتح علينا جرح آخر وهو جرح ليبيا الشقيقة، هذه القطعة العزيزة التي وصفها إمامنا الإبراهيمي بأنها “رقعة من صنع الله، مطرزة الحواشي، بما يسحر الألباب”.
فقد بوأ الله ليبيا، من حيث الموقع الجغرافي مكانا عليا، ووهبها من الكنوز والمغاني ما أسال لعاب الطامعين، وأغرى لباب المغامرين.
فبعد أن كانت ليبيا بلد الجهاد والمجاهدين بزعامة الشهيد عمر المختار، سطا على مصيرها مغامرون، تحت عناوين مظلومة، كعنوان: “الثوار”، فقضوا فيها على نعمة الخصوبة، وشوّهوا فيها معنى الإسلام والعروبة.
لقد أتى على ليبيا الشقيقة، حين من الدهر، فقدت فيه معنى الازدهار، وساد اقتصادها وباء الاندثار، وخيّم على ساحتها بؤس الشعار، وسخف الانبهار، وعقدة الزعامة، والتفرد بالحكم، والقرار. وهكذا خرجت شقيقتنا ليبيا من نفقها المظلم فاقدة لمعنى المؤسسات، وعارية من كل المعتقدات، وخالية من أبسط معاني التوجهات، فلا لديها جيش يحميها، ولا دستور ينجيها، ولا قائد فذ يعليها، وبذلك صارت هدفا للطامعين، وملاذا للمغامرين، ومسرحا للإخوة المتشاكسين.
إن ليبيا –اليوم- في طور امتحان عصيب، تتخلله الأهواء والمطامع، ويحيط به الكيد والتآمر من كل جانب، ومن هنا جاء حق الاشتراك بيننا وبين ليبيا الشقيقة، في وحدة الآلام والمحن وفي الآمال المقترحة على الزمن.
وكأن التاريخ يعيد نفسه، فقد تصدى لمعاناة ليبيا، خلال جهادها ضد الاستعمار الإيطالي من أجل افتكاك استقلالها، تصدى الإمام محمد البشير الإبراهيمي آنذاك لوصف معاناتها، فقدم لنا صورة دقيقة وعميقة يمكن أن ننزلها على واقع ليبيا اليوم: “وإنهم في حال انتقال من حال إلى حال، من حال كانوا يواجهون فيه عدوا واحدا، مكشوف النيات والسرائر، حيواني الشهوات والمنازع، إلى حال يواجهون فيه ثلاثة أعداء متشاكسي المصالح، متبايني المطامع، متظاهرين بالتقوى والعدل، والنصيحة الرشيدة للمستضعفين، ولكنهم متفقون على الاستغلال، لا على الاستقلال” [آثار الإمام الإبراهيمي، ج3، ص403].
وما ذلك إلا لأن من أبناء الوطن الليبي، فريقا من أعوان التفريق، وأعواد التحريق، مغامرون لا يتورعون عن احتضان الشيطان، واللباس لبوس الثعبان، من أجل بسط نفوذهم على السكان. وما توقف طموح هؤلاء المغامرين عند حدود الجدود، بل سولت لهم أنفسهم المزيفة مد أعينهم، وربما أرجلهم إلى ما بعد السدود، بالتهديد والوعيد، وساء ما يعملون، وينطبق عليهم قول الشاعر جرير:
زعم الفرزدق أن سيقتل مربعا ألا أبشر، بطول السلامة يا مربع
أو قول الشاعر الجزائري صالح خرفي:
ومن بنزالنا غرته نفس تركنا أمه تبكيه ثكلى
فما هو –والحالة هذه- واجبنا إزاء ما يحدث في ليبيا؟
إن حق التاريخ، وحق الجغرافيا، وحق الإسلام، وحق العروبة، وحق المصير المشترك، كلها حقوق توجب علينا الوقوف إلى جانب الشعب الليبي الشقيق في محنته العويصة.
وإن محنة ليبيا –اليوم- متعددة الأسباب والغايات، فمحنتها تكمن في خارجية الولاء، وفي نشاز الإيديولوجية والانتماء، وفي التنكر لوحدة الوطن والأبناء.
ومن هنا، فإن من حق ليبيا علينا، وخاصة نحن الجزائريين، الذين تربطنا بهم رابطة الدم والسحنة، وعراقة المصير والمحنة، أن نهب لنجدتهم، لنخلصهم من براثن المتسللين ودعاة الفتنة.
وكيف يكون ذلك؟ يكون بتوحيد قوة المستضعفين، ضد قوة المعتدين، وكما قال أحد الحكماء القدامى، الذي سئل، كيف يمكن التغلب على الأقوياء؟ فأجاب بتوحيد سلاح الضعفاء.
فالمطلوب السعي لتقوية الوعي لدى أبناء ليبيا المخلصين، وما أكثرهم، خصوصا الذين ظل ولاؤهم لوطنهم الليبي، لا لغيره، أي الذين يعملون على تأصيل المعتقد الليبي لدى الليبيين الأصلاء، والذين يعملون على حماية اقتصاد ليبيا من جشع وأطماع الدخلاء، والذين يتشبثون بوحدة التاريخ، والجغرافيا، والشعب في ليبيا، للحيلولة دون أي اختراق أو أي اختلاف.
وتحضرني هنا مقولة الأم الليبية الثكلى التي أعدم ولداها في سجن أبي سليم الرهيب، عندما جاءت إليهما بالأكل في أثناء الزيارة، فأعلمها حارس السجن بأن ولديها في عداد من قتلوا، فتوجهت إلى القبلة، ورفعت يديها المرتعشتين، وعينيها المبللتين بالدموع، ودعت بهذا الدعاء الرهيب، وباللهجة الليبية العريقة: “يخيب رْجاكم، كيما خيبتو رْجانا، وإن شاء الله، يا قاتل ضنانا، لا دفّان، ولا جبانة”.
إن دعوة المظلوم ليس بينها وبين الله حجاب، وقد تبيّن مصير دعائها في ما بعد، ولا يظلم ربك أحدا.
ألا فليع العرب الأحرار عموما، وأبناء ليبيا الأحرار على الخصوص، أن وطنهم أمانة في أعناق كل واحد وكل واحدة منهم، وأن ليبيا يجب أن تبقى قوية وعزيزة، وشامخة، ولن يكون كذلك إلا إذا توحدت من بنغازي إلى فزان، ومن حدود السلوم إلى حدود غدامس، وإننا لواثقون من أن ليبيا سوف تكون لذلك، مادام فيها علماء وفحول عاملون بعلمهم، مثل مفتي ليبيا فضيلة الشيخ الصادق الغرياني، الذي آتاه الله بسطة في العلم، وحكمة في العقل، وجرأة في الموقف، وذلك مثل للعالم الصالح المصلح.
فيا أشقاءنا في ليبيا !
اعلموا أن مسؤولية حماية ليبيا تقع على ذمتكم بالدرجة الأولى، فليست النائحة المستأجرة كالثكلى، ولكن ثقوا من أن لديكم إخوانا لكم يقاسموكم السراء والضراء، ويقفون معكم في محنتكم، كما قاسمتموهم محنتهم أيام الشدة.
فقد أبلى الشعب الليبي الشقيق البلاء الحسن في نصرة الجزائر، فقدم المال والأعمال، والدماء والسلاح والوعاء.
وأطال الله في عمر شيخنا محمد الصالح الصديق الذي كان خير شاهد على ما قدمته ليبيا إبان الثورة للجزائر الشقيقة.
فقد ذكر لي أن أحد الشحاذين الليبيين، كان يشحذ في شوارع طرابلس، وما يجود به عليه المحسنون يأتي به كل يوم إلى مكتب الثورة الجزائرية، ويقدمه مساهمة منه.
كما ذكر لي أن عروسا في حفل زفافها، شاهدت سيارات تجول في يوم التضامن مع الجزائر، فلما عرفت السبب نزعت كل ما لديها من جواهر، وقالت اذهبوا بها إلى صندوق الثورة الجزائري.
وثالثة الأثافي، أن أحد المناضلين الجزائريين، كُلف بإيصال شحنة أسلحة عاجلة إلى الحدود، وفي أثناء قيامه بذلك، وكان مسرعا، قتل طفلا ليبيا، فأخذ الأب السلاح وقال من قتل ابني أقتله، فقال له الناس الذي ارتكب الحادث جزائري حامل السلاح إلى المجاهدين الجزائريين، فسقط السلاح من يد الأب وقال ابني شهيد في سبيل الجزائر.
وإذن، فإن محنة ليبيا ستظل محنتنا، بالرغم من الأعداء المتكالبين، ومن الإخوة المتشاكسين.
عبدالرزاق قسوم – الشروق الجزائرية