المرايا “إذا مَحاسِنِيَ اللاتي أُدِلُّ بِها كانَت ذُنوبي فَقُل لي كَيفَ أَعتَذِرُ”
نتصور أنفسنا بوصفنا أفراداً، وكل فرد له صورة واحدة يظل يرسمها لنفسه ويحرص على أن يجعل غيره يرى الصورة المرسومة منه، ولكن الذي يحدث دوماً أننا نتفاجأ كل مرة نحتك بها مع الآخرين أن لنا في أذهانهم صوراً غير التي رسمنا، وسنجد أننا أمام صور تتعدد بتعدد المرايا التي تنعكس فيها صورنا لدى الآخرين، وهذه حالة تقع للأمم بمثل ما تقع للأفراد، وكل أمة تتعدد صورها في مرايا الأمم الأخرى، وغالباً ما تكون المرايا غير أمينة في عكس الصورة، لأن مرايا الناس التي تعيد صياغة الآخر أو الآخرين تتغذى من المخازن الذهنية التي تصنع سير الغير ومن ثم تحيلها لصور ذهنية هي المرايا التي تعكس وجوه الناس وتصبغ معانيهم بخير أو بشر، مما يجعلنا كائنات شبه وهمية؛ بمعنى أننا لا نكاد نتعرف عليها، ونظل نلوم غيرنا بمثل ما يلومنا غيرنا، أو يسخط منا كلما رأى صورته عندنا تختلف عن صورته لدى نفسه، وقد عبر البحتري عن معاناته من تحول صورته إلى صورة سلبية، في حين يراها صورة فاضلة، ويرى المزية تتحول لعيب أو حتى ذنب، بينما هي حسنات عنده، وفي ذلك يقول:
إذا مَحاسِنِيَ اللاتي أُدِلُّ بِها
كانَت ذُنوبي فَقُل لي كَيفَ أَعتَذِرُ
وهذه حالة قاتمة جعلت الشاعر يصرخ مستنكراً تحول محاسنه التي يتباهى بها إلى ذنوب تحسب ضده، فتتشوه صورته الحسنة في أصلها عنده إلى صورة يتحمل وزرها، مما يتعصى عليه فهم سببها أو الاعتذار عنها، وكيف يعتذر المرء عن محاسنه، وكأنها آثامٌ يقترفها وتحسب عليه، ويقابل ذلك قول علي بن الجهم:
وَمَن ذا الَّذي تُرضى سَجاياهُ كُلُّها
كَفى المَرءَ نُبلاً أَن تُعَدَّ مَعايِبُهْ
وقد روي هذا البيت لشعراء آخرين غير ابن الجهم، مما يعني أن البيت شعارٌ ثقافي يكشف حياة البشر مع عيوبهم التي هي عيوب فطرية ونواقص إنسانية يحسن بنا أن نتفهمها ومن ثم نتقبلها أو نتغاضى عنها، ويقيس المرء ذلك على نفسه المعيبة أيضاً، وهذا هو الشخص العادل التقي والواقعي، ولكن الغالب هو التمتع النفسي بعيوب الآخرين مع نسيان عيوب الذات، وهنا يتولى البيت المنسوب لعدد من الشعراء ليثبت الحقيقة البشرية في أن تعداد العيوب هو وصفة في النبل والتميز لأن التعداد يعني الحصر، بينما العيب الحق هو في الذي يتجاوز القدرة على التعداد، وهذه مناورة دفاعية تصد هجوم الآخرين الذين ينتمون لطبع ثقافي يميل للحش في أي اسم معروف وكأن ذلك نوع من قتل الأب بالمفهوم الفرويدي، وفكرة قتل الرموز هي معنى نسقي ينبع من الرغبة لجعل الرمز مجرد رقم عادي بحجة أن له عيوباً، ولكن أيّ الناس تصفو مشاربه، لولا أن المثل يقول (غلطة الشاطر بعشرة) وعثرة الفارس قاتلة، ولهذا فإننا كبشر لسنا سوى مرايا متجاورةٍ تتعاكس وتصنع أطيافاً غير الصورة الأصل حتى ليتلاشى الأصل وسط النسخ المركبة من الظنون ومن التهيؤات ومن المخازن الذهنية.
د. عبدالله الغذامي – كاتب ومفكر سعودي
أستاذ النقد والنظرية/ جامعة الملك سعود – الرياض