مرض اسمه النوستالجيا
وقد ظهر مصطلح النوستالجيا، (أى الحنين إلى الماضى)، أول ما ظهر، على يد طبيب فرنسى فى أواخر القرن السابع عشر. اعتبر هذا الطبيب أن النوستالجيا مرضٌ، ومرض قاتل أيضًا(!). ورصد له هذا الطبيب أعراضًا ومظاهر تعترى مَن يُصاب به، ولاسيما من الجنود الذين يقضون فتراتٍ طويلة بعيدة عن وطنهم، بل أشار الطبيب إلى أن المرض يُمكن أن تكون له تبعاتٌ خطيرة تُفضى إلى الوفاة بسبب الامتناع عن الطعام الناتج عن الاكتئاب، وشخّص بالفعل عددًا من الوفيات بهذا «المرض». ورغم أننا نعرف اليوم أن هؤلاء لم «يقتلهم الحنين» حقًّا، وإنما ماتوا لأسباب مرضية أخرى، فإن فكرة هذا الطبيب الفرنسى عن «الموت حنينًا» تبدو مدهشة وعجيبة.
من الواضح أن تصور الطبيب الفرنسى عن النوستالجيا يخالف ما نعرفه اليوم عن هذا الشعور، إذ يرتبط تصوره أساسًا بالحنين إلى المكان أو الحنين إلى الديار، فيما ننظر نحن إلى النوستالجيا باعتبارها حنينًا إلى نقطة زمنية ماضية. والحنين إلى المكان شعور لصيق بالبشر يُمكن أن نلمسه فى كافة الثقافات، وإن كانت بعض الثقافات تحتفل به أكثر من غيرها. الثقافة العربية مثلًا، وبسبب الترحال المستمر المرتبط بالحياة البدوية، تتميز بهذا الاحتفاء الاستثنائى بالمكان وما يرتبط به من ذكريات. فى الشعر العربى غرضٌ كامل يتعلق بالبكاء على الأطلال، وبه استهل فحول الشعراء معلقاتهم الأيقونية: (لخولة أطلالٌ ببرقة ثهمدِ.. تلوح كباقى الوشم فى ظاهر اليدِ).. هكذا يستهل طرفة بن العبد معلقته، ثم يقول فى صرخة ألمٍ مُضْنٍ: (وقوفًا بها صحبى على مطيهم.. يقولون لا تهلك أسىً وتَجَلّدِ). وليس هناك ما هو أشهر من معلقة امرئ القيس، التى يفتتحها بقوله: (قفا بنا نبكِ من ذكرى حبيبٍ ومنزل.. بسقط اللوى بين الدخول فحوملِ). ويقول آخر: (بروحى تلك الأرض ما أطيب الرُبا.. وما أحسن المصطاف والمتربعا/ وأذكر أيام الصبا ثم أنثنى.. على كبدى من خشيةٍ أن تصدعا).
أما الحنين إلى الزمن الماضى فموجودٌ أيضًا فى كافة الثقافات وكافة الفترات التاريخية، على أن ظاهرة الألم المرتبط بالحنين لذكريات ترتبط بزمانٍ معين تنتمى بصورة أكبر للعصر الحديث. عبر التاريخ، وفى الأغلبية الكاسحة من فتراته، عاش الناس بنفس الطريقة تقريبًا، بل إن أغلب البشر كان يُولد ويعيش ويموت فى نفس البقعة من الأرض، حيث التنقل والسفر مكلفٌ وصعب واستثنائى. أما فى العصر الحديث، وبداية من القرن السابع عشر، فقد أخذت طرائق الحياة فى التغير بسرعات تزايدت مع الوقت. الدخول إلى عصر الصناعة والمدن الكبرى كان النقلة الأهم فى حياة البشر بعد الانتقال إلى الزراعة منذ عشرة آلاف عام. وجلبت الصناعة معها تغيراتٍ جوهرية فى نمط الحياة. ومع الوقت صار بإمكان الفرد الواحد، وفى رحلة حياة واحدة، أن يُعاين تغيرًا عميقًا فى طريقة حياته، من الملبس إلى التكنولوجيا إلى التنظيم الاجتماعى. هذه التغيرات السريعة المتتابعة أفسحت المجال للنوستالجيا لتصير من أهم المشاعر المصاحبة للتجربة البشرية فى العصور الحديثة.
وكما تُساعد النوستالجيا الفرد فى تكوين شخصية متصلة عبر الذكريات، فإن النوستالجيا تُساعد الأمم أيضًا فى نسج علاقة مستمرة مع الماضى. بعض النوستالجيا يُفيد الأمم فى تكوين هذا «الحنين المشترك» بين أبنائها لأزمان ماضية فى تجربتها التاريخية، وبحيث تخطو للأمام فى ثقة. غير أن الكثير منها يضر ولا شك، بل يُمكن أن يكون محلًّا للتلاعب السياسى.
تيار اليمين، فى الولايات المتحدة وأوروبا، يُجيد اللعب على النوستالجيا. شعار «ترامب» الرئيسى- «جعل أمريكا عظيمة من جديد»- يرتكز على النوستالجيا ويؤسس عليها، وينطلق منها. يدغدغ «ترامب» فى جمهوره مشاعر الحنين إلى زمنٍ كانت فيه الولايات المتحدة «بيضاء أكثر»، وأشد تجانسًا و«وطنية». لا يستهدف ترامب مَن عاشوا زمن الخمسينيات والستينيات بالضرورة، فالحنين إلى فترة تاريخية معينة لا يستوجب بالضرورة أن يكون المرء قد عاشها بنفسه. وترتكز «النوستالجيا السلفية» فى العالم الإسلامى على غرس هذا الحنين إلى «القرون الثلاثة الأول» باستحضار هذا العالم بكل تفاصيله ليصير أقرب إلى الفرد من العالم الذى يعيشه بالفعل.
إنه نوع من «تسييس الحنين» إن جاز التعبير. ولا يخفى أنه يستهدف الحاضر لا الماضى. كل حنين إلى فترة ماضية يحمل حُكمًا مُبطنًا على الحاضر، ونقدًا لجوانب محددة فيه. ويقوم هذا «التسييس» فى أحيان كثيرة على إعادة اختراع ماضٍ متخيل. لقد اكتشف العلماء سهولة أن يحمل الإنسان «ذكريات زائفة» دون أن يدرى بزيفها، بل يُدافع فى صدقٍ عن أنها ذكرياته الشخصية، بينما الحقيقة أنها ذكرياتٌ لا وجود لها اخترعها الدماغ. وبالمثل، فإن النوستالجيا القومية ترتكز- فى بعض الأحيان- على «حنين مصنوع». يقول محمود درويش: «كل حنين يُولد من حادثة جميلة، ولا يولد من الجُرح.. فليس الحنين ذكرى، بل هو ما يُنتقى من مُتحف الذاكرة».
النوستالجيا، والحال هذه، انتقائية. تُعيد تشكيل الماضى من جديد، بل تُعيد اختراعه كُليًّا فى بعض الأحيان لكى تُساعد فى الإجابة عن مشكلات حاضرة، ولتعين المرء- أو الأمة فى حالة النوستالجيا القومية- فى التعامل مع تحديات تواجهها فى الزمن الحاضر. وليس واضحًا ما إن كانت النوستالجيا، بهذا المعنى، شيئًا جيدًا أم شعورًا مرضيًّا قاتلًا على نحو ما قال الطبيب الفرنسى.
المؤكد أن الأمم المريضة بالنوستالجيا تُعانى مشكلةً ما مع حاضرها. النوستالجيا فى هذه الحالة هى عرَضٌ لمرضٍ أعمق. فى روسيا، مثلًا، نوستالجيا إمبراطورية، بل نوستالجيا للزمن الشيوعى، وكذا الحال فى بعض أمم أوروبا الشرقية. وفى الولايات المتحدة وبريطانيا نوستالجيا لوطن أبيض متجانس عرقيًّا. وفى هذه الحالات كلها، وُظفت مشاعر النوستالجيا لصالح اليمين أو اليسار لصناعة حركاتٍ سياسية كبرى، من الخروج من الاتحاد الأوروبى فى حالة بريطانيا، أو «البوتينية» فى حالة روسيا، أو «الترامبية» فى حالة الولايات المتحدة.
وليست الأمة المصرية ببعيدة عن ألعاب الحنين هذه. من السهل رصد الكثير من خطوط النوستالجيا وتجلياتها فى الواقع المصرى. هناك نوستالجيا، راسخة متجددة، إلى العصر الذهبى للإسلام. وثمة نوستالجيا للزمن الليبرالى قبل ثورة ١٩٥٢، وثمة نوستالجيا إلى العصر الناصرى، بل هناك حنين لا يخفى لزمن مبارك. وفى كل «نوستالجيا» من هذه نلمس ذلك النزوع إلى الانتقائية والتركيز المُضخم على جانب واحد من التجربة الحياتية، على نحوٍ يُثير فى المرء الحنين الشديد والرغبة فى الهرب إلى هذه الفترة الزمنية أو تلك باعتبارها عصرًا ذهبيًّا لن يتكرر. ولا عيبَ فى قدر من النوستالجيا لأن كل فترةٍ كان لها جمالها بالفعل كما عاينه مَن عاشوها. غير أن الانغماس فى الحنين على نحو مرضى لا يُنتج سوى شعور الاكتئاب والنفور من الحاضر.
الحنين شعور طبيعى، وصحى إلى حد بعيد. الحنين المرضى الجماعى- إن جاز التعبير- يكشف عن شىء ما خطأ فى الثقافة ذاتها.. شىء ماضوى على نحو ما.
جمال أبوالحسن – المصري اليوم