آراء

قضايا الطلاق بين حضور الوعي وغيابه

فى إحدى وحدات تلقِّى حالات النساء المعنَّفات والاستماع لمآسيهن، جاءتهم حالة لسيدة أصرَّ زوجها أن يتم ختانها، بعد أن تخطت سِن السابعة والعشرين؛ لأنه سيسافر ليعمل بالخارج، ولا يريد أن يتركها طبيعية، فى مثل هذه الحالات التى يتكرر استقبالها فى الوحدة، بحسب المختصين، يظهر ملمحان أساسيان ضمْن حقائق مؤسفة، أولًا: عدم وعى بعض الرجال بأنه لا علاقة مباشرة بين العفاف وبتْر طبيعة الخِلقة، كأن بعضهم لا يدرك أن منظومة القِيَم هى التى تسيطر على الغرائز والاحتياجات، وأن إعلاء القِيَم وتربيتها هو الذى ينظِّم الشهوات، كما أن الالتزام بالعهود مفهوم أخلاقى كامن فى النفس، لا علاقة له بأجزاء من الجسد. الملمح الثانى تساؤل يَرِد على الخاطر: لماذا انشغل الرجُل بتأمين ما يتصور امتلاكه من الجانب الجسدى فى العلاقة، وهل تراه فكَّر فى التأثيرات النفسية للغربة على طرفَى الزواج، عليه وعلى شريكة حياته، كأننا- ونحن نواجه هذه المواقف- فى حاجة ماسّة للمعرفة، والوعى بأبعاد المشكلات النفسية والاجتماعية، فى حاجة للعلم والتعليم الحقيقى والثقافة، والنظر إلى الطرف الآخَر فى العلاقة، ليس فقط الحرص على عدم إيذائه النفسى أو المادى، بل البحث عن سعادته بفهمه، والتواصُل المُحب معه.

ولقد وردت لديهم حالة لطبيب نفسى، يعمل ويعيش فى إنجلترا، عقَد قرانه على طبيبة من القاهرة، بعد أن أصر على أن تترك عمَلها، وترتدى النقاب؛ لتسافر معه، وبالفعل قامت بما أراد، ربما استجابت كما تفعل النساء الآن لمجرد الحصول على فرصة زواج، تفاقمت الخلافات بينهما قبْل إتمام الزواج، كان ينتقد ويقلل من شأن كل ما تقوم به، ويشكك فى كل تصرُّف يصدر عنها، فطلَّقها لمجرد أنها تأخرت للثانية عشرة ليلًا مع صديقتها، لم يدرك هذا الطبيب المتعلم- الذى يعيش فى الخارج- أهمية التفاهمات التى تضمَن تواصُلًا يعبِّر فيه الطرفان عن نفسَيهما، والظروف التى يتعرضان لها، وتحيط بهما، أراد أن يأمُر فلا يجد سوى الطاعة والاستجابة، أراد أن يسْخر ويقلل من قيمة الإنسانة التى سيتزوجها وعملها؛ ليُشعرها بتفوقه وسيادته، وضرورة طاعته، وربما نتساءل هنا: ألم يترك تعليمه وسفَره للخارج ومعايشته لثقافات حرة، وتخصصُه النفسى أى أثَر على وعيه وثقافته، ومرونته الشخصية، والارتقاء بالسلوك؟.

كأن التعليم بمفرده لا يكفى، فكثير من المتعلمين الحاصلين على درجة الدكتوراة- ومن الذين احتكوا بثقافة مغايرة- يرفض تمامًا عمل امرأته، أو استكمال دراستها، أو استقلالها المادى، أو مجرد ترْك بعض الأموال معها، هؤلاء النماذج يصعب عليهم تصوُّر أن للمرأة كيانًا حُرًّا، كيانًا يختار ويقرر، وقادرًا على الحياة بذاته.

كأن نوعية ما يُدرَّس فى المدارس، وما يُعرَض فى الإعلام والفنون والسرديات والدراما، وأيضًا ما يتداوله الناس فيما بينهم من أمثال ومقولات وحكايات، لا يكوّن وعيًا حقيقيًّا بمفاهيم حرية المرأة، واحترام كيانها وإرادتها واختياراتها، سواء فى ظِل الأُسرة «الأب والأم»، أو فى المفاهيم المؤسسة للحياة الزوجية.

كما ترد فى هذه الوحدة حالات بلا حصْر لنساء تشتكى فى القُرى والمدن الصغيرة من التقتير الشديد من الأزواج عليهن، وهُن فى الغالب لا يعملن؛ أى لا يمتلكن دخْلًا خاصًّا بهن، كما يُلزِمهن الرجال بخدمة أهل الزوج؛ أمه وأبيه وإخوته، وإن اعترضت؛ تتم ممارسة كل أشكال العنف ضدها، والتى قد تصل إلى سَبِّها وضرْبها ومنْع الطعام عنها. فى المجتمع الريفى والطبقة الدنيا عادة يستسهل بعض الرجال إهانة المرأة، وتسخيرها لممارسة الخدمة فى الأرض الزراعية أو البيوت، هى ملزَمة فقط بإطاعة أوامر زوجها، مهما طلَب منها، وهنا يجب أن نتوقف لنقول إننا فى حاجة ماسّة لتطوير محتوى ومضامين المناهج التى تُدرَّس فى مدارسنا وتخص المرأة والمجتمع، علينا إعادة ضبْط مدخلات الوعى العميق لدى الرجال والنساء التى تربى، وإثبات أن كرامة المرأة وكبرياءها كرامة للرجُل ولكيان الأُسرة والمجتمع ككل. كأننا بإزاء أزمة تستلزم بَثَّ مجموعة من القِيَم الجديدة وترسيخها فى الوعى.

وفى إحدى حالات تعدُّد الزوجات، التى تتكرر قصصها بحسب اختلاف الظروف الفردية والإنسانية، ذكرت إحدى النساء، المتزوجة من أحد مُلاك الأرض فى المجتمع الريفى، أنها عندما لم تنجب من زوجها؛ تزوَّج سبْع نساء على التوالى، فكلَّما مَرَّ عامان ولم تَظهَر علامات الحمْل على الزوجة؛ طلَّقها، ولأن زوجته الأولى هى التى طلبت الطلاق؛ حبَسها فى غرفتها بمنزله، وحرَمها من زيارة أهلها أو اتصالهم بها. لم يتفهم الرجل أنها كيان بشرى لا يحتمل هذا التعدد، وألحقَ بها الأذى النفسى، فادَّعى أنها تعترض على شرْع الله، بينما كل ما أرادته تسريح بإحسان؛ أليس هذا أيضًا كلام الله ورسوله؟!.

وجاءت- فى إحدى الحالات التى تواصلت مع الوحدة- امرأة تشتكى من سفَر زوجها المستمر، وتزوُّجِه من فلبينية، فى البلد التى يعمل بها، وأنه يقَتِّر عليها وعلى أولادها فى متطلبات الحياة، فإذا بهم يكتشفون- بعد الاستماع للزوج- أنها هى مَن ترفض السفَر، وتواعِد رجُلًا آخَرَ، وأنها تكذب بخصوص إنفاقه عليها وعلى أولادهما، ويقول المسؤولون إنها لم تنطق عندما سمعت من زوجها هذه المواجهات، واتضح كذبها، لم تَعِ هذه المرأة أنها بصَوْن نفسها وأُسرتها تحافظ على كيانها قبل أن تفكر فى الانتقام من زوج غائب.

كما تكثُر حالات السيدات اللاتى يأتين ليشتكين من أزمة الافتقار للرجولة، وأن الرجُل لم يعد مسؤولًا عن حياة الأُسرة ولا متطلباتها، ويركن سريعًا للدعة والكسل؛ فيترك زوجته تعمل وتعيل نفسها وأولادها، وحين يجد الرجُل هذه المرأة؛ يلقى عليها بكل مسؤوليات وشؤون الأُسرة، وتتبدد النخوة والشهامة وإعالة الأُسرة أمام شاشة البلايستيشن، أو المخدرات وجلسات القهوة والأصدقاء، لتُطحن المرأة بتحمُّل مسؤوليات بيت بأكمله، بجوار عملها الذى يعيش عليه الجميع.

حين شرعتُ أكتب عن موضوع الطلاق فى مصر؛ اتضح لى أن هذه القضية شديدة الاتساع، وأنها تتضمن محاوِرَ متعددةً ومستوياتٍ كثيرةً مختلفة، وهو ما سأتناوله فى سلسلة من المقالات، وتختلف أسباب الطلاق فى كل مستوى عن المستوى الآخَر، لكن أسباب كل هذه المستويات باختلافاتها تتشابه أيضًا، وتُسفِر فى النهاية عن وقوع الطلاق.

هذا وتختلف أسباب الطلاق بين كبار السن عن أسباب حديثى الزواج والأجيال الأكثر حداثة عمرية، كما تختلف أيضًا أسباب الطلاق بين الطبقات؛ فالطبقتان الفقيرة والوسطى الدنيا تختلف فى أسبابها ونوعية مشكلاتها عن الوسطى العليا والطبقة العليا، التى تقبض على أغلب رأس المال.

ولقد لاحظتُ- أثناء البحث فى هذه المستويات- أن هناك قاسِمًا مشترَكًا أعلى بين الشرائح كافة، وهو الذى يؤدِّى بالجميع إلى هذا المصير الانفصالى، الذى يشتت أُسَرًا بأكملها، ويعبث بنَشْء المستقبل، حيث يبرز بشدة الافتقار إلى الوعى الإنسانى المعتدل، الذى يتكوَّن بالتعلم والثقافة والفنون والتفكر والاعتدال الدينى، بمعرفة الحقوق والواجبات سواء للزوج أو الزوجة، كما رصدت عدم توافر قدْر من الإنسانية، التى توفِّر المحبة والتسامح فى التعاملات، كما يسود المجتمع الجهل وعدم المعرفة بحدود الذات وحقوقها، على ألا تتغول على حقوق الطرف الآخَر، وألا يمارس إرهابه عليه، كما أذهلنى غياب دور الأُسرة وقِيَمها، وهذا إمَّا لانشغال الأب والأم فى طاحونة من العمل المستمر، أو لرفْض الشباب تدخُّل أى طرف للإصلاح بين الطرفين عند احتمالية أو مناقشة ملابسات الطلاق، فالأُسرة- بما كان يسودها من جَوِّ الأُلفة والاحترام بين أفرادها- كانت تربِّى وتعلِّم؛ فتنشأ الذوات السوية التى تسعى للمثابرة من أجْل النجاح، الشخصيات التى تكره الفشل؛ فتجاهد لتلافى أسبابه، الكيانات التى تحب ذواتها والآخَرين، وتحتفى بالنجاح، تقوِّم أسباب الفشل، وتشتغل على تلافيها، ولا تيأس؛ فتحاول مِرارًا دون الركون لهروب سريع، وترْك العلاقة كأكوام من هَدَدٍ لا يمكن بناؤه ثانية. وأحسب أن وراء غياب الوعى هذا مجموعةً من الأسباب، أوَّلها وأهمها غياب منظومة تعليم حقيقية بمناهج إنسانية تُعلى قِيَم الاحترام والتقدير والشراكة بين الزوجَين.

كما رصدتُ ازدياد الأنانية والتفكير فى الأنا فقط؛ أنا مَن أقول، وأنا مَن يفعل، أنا مَن ينفق، أنا مَن يقرر، أنا مَن يحدد، هذا مع عدم الوعى ولا الانتباه لمفهوم الـ«نحن». شحَّت الرجولة، وتقلصت كقيمة أمان وسند واحتواء تسعى إليها المرأة، وتم قلْب الأدوار، فلم يعُد الرجُل يتحمل المسؤولية، ولا الاجتهاد فى سبيل إنجاح وإسعاد الحياة الزوجية، كما شحَّت الأنوثة أيضًا، وتم تصدير المرأة القوية المعتمدة على نفسها فى واجهة المشهد العام للعلاقات الاجتماعية.

تبدَّدت أيضًا أدوار الأمومة والأبوة، حيث لم يعد كيان الأُسرة حاضرًا وراسخًا فى الأولاد، فإما أن قطبَى الأُسرة فى الخارج للعمل وتوفير متطلبات أُسرية لا تنتهى، ولا يمكن أن تنتهى، أو رفْض الأولاد لتدخُّل أى شخصية فى مسار حياتهم، حتى لو كانوا آباءهم، فعادة صار البعض من الطبقتين العليا والوسطى يلجأون للمتحدث المتخصص فى علم النفس، وهو ما يُدخِلهم فى دوامات من الصراعات النفسية والحكم الجائر على الآخَرين، وتوهم أن الجميع مرضى بشكل ما. ونتابع.

د. أماني فؤاد – المصري اليوم

اضغط هنا للانضمام لقروبات كوش نيوز على واتساب

قروبات كوش نيوز الإضافية



زر الذهاب إلى الأعلى