كلفة الحرب.. وثمن السلام
للحرب تأثير مدمر على صحة الأمم واقتصاداتها، فهي تمزق المجتمعات وتعطل التنمية، وتترك آثاراً نفسية وجسدية طويلة المدى على الناجين من مهالكها، والتاريخ مليء بالأدلة، فالحربان العالميتان الأولى والثانية خلفتا مجتمعتين أكثر من 70 مليون قتيل، فضلاً عن عشرات الملايين من المصابين، إضافة إلى الكلفة الاقتصادية الباهظة، التي تجاوزت في الحرب العالمية الثانية فقط نحو 4 تريليونات دولار بحسابات اليوم وفارق التضخم، لذلك فإن الشعوب التي أنهكتها الحروب تبحث عن السلام بأي ثمن.«الأرض مقابل السلام» مصطلح عرفه العرب مع انطلاق مفاوضات السلام العربية – الإسرائيلية، وقُصد به العودة إلى حدود ما قبل عام 1967، في مقابل السلام مع إسرائيل.
هذا المصطلح الذي ارتبط لعقود طويلة بالقضية الفلسطينية، انتقل إلى نطاق جيوسياسي آخر، فهاجر إلى الشرق الأوروبي، وتحديداً أوكرانيا، ففي عام 2010 عندما أصبح فيكتور يانوكوفيتش رئيساً لأوكرانيا، مدد عقد إيجار روسيا لميناء سيفاستوبول حتى عام 2042، ما سمح لموسكو بوضع 25 ألف جندي في المدينة، والحفاظ على قاعدتين جويتين بشبه جزيرة القرم، وذلك مقابل تخفيضات في أسعار الغاز الروسي.
على النقيض أرجأ يانوكوفيتش توقيع اتفاقية شراكة مع الاتحاد الأوروبي، لتندلع احتجاجات وأحداث شغب في العاصمة كييف في نوفمبر 2013، استمرت لأسابيع، واضطر على إثرها الرئيس الأوكراني إلى مغادرة البلاد في 22 فبراير 2014، ليتسلم السلطة من بعده رجل الأعمال بترو بوروشينكو المقرب من الغرب.
اعتبرت روسيا وجود بوروشينكو خرقاً لخطوطها الحمراء، ودفعت بقوات موالية لها للسيطرة على البرلمان وبعض المطارات والمنشآت المهمة في القرم، ثم نظمت استفتاء في 16 مارس 2014، انتهى بإعلان انفصال شبه جزيرة القرم عن أوكرانيا وانضمامها إلى الاتحاد الروسي في 18 مارس من العام نفسه.ضم شبه جزيرة القرم لم يكن الفصل الأخير في الملف الروسي الأوكراني، بل كان الفصل الأول في مرحلة جديدة من العلاقات بين البلدين، خصوصاً مع وصول فولوديمير زيلينسكي لسدة الحكم بأوكرانيا في يوليو 2019، ومناشدته بعد 6 أشهر من توليه منصبه لنظيره الأمريكي جو بايدن الدعم، لانضمام كييف إلى حلف شمال الأطلسي.
محاولات كييف الانسلاخ عن روسيا والتحالف مع الغرب، دفعت الرئيس الروسي فلاديمير بوتين إلى إطلاق عملية عسكرية خاصة في أوكرانيا في 24 فبراير 2022، انطلقت من إقليم دونباس في الشرق، لتتوسع لاحقاً على كافة المحاور، مخلفة حتى الآن آلاف القتلى والمصابين، وعشرات المليارات من الخسائر المالية.
منذ انطلاق هذه العملية العسكرية قبل عامين ونصف العام، لم تلح في الأفق أي تسوية مقبولة من أطراف الحرب، فالغرب بقيادة واشنطن يمنح أوكرانيا ما يبقيها في ساحة المعركة من دعم مالي وعسكري وسياسي، بينما تمتلك روسيا كل مقومات خوض حرب طويلة الأمد.تتنافر الأقطاب المتحاربة، ولا تجد نقطة التقاء. الرئيس الروسي، رسم خطوطه الحمراء للتفاوض، مشترطاً سحب كييف قواتها من مناطق دونيتسك ولوغانسك وخيرسون وزابوريجيا، والتخلي عن مشروع الانضمام إلى الناتو.
عند هذه النقطة فقط، أكد بوتين أنه سيصدر فوراً أمره لوقف إطلاق النار، وبدء مفاوضات السلام. في الجهة المقابلة استبعد الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي بشكل قاطع أي تنازل عن أي مناطق أوكرانية.
هذا الأفق المسدود أوصل فئة من الشعب الأوكراني إلى البحث عن السلام بأي ثمن.. وكالة الأنباء الفرنسية نقلت عن سكان في منطقة دونيتسك، استعدادهم للعيش في ظل الحكم الروسي إذا كان ذلك ثمناً للسلام.
سفيتلانا امرأة أوكرانية تبلغ 71 عاماً، علقت على فكرة التنازل عن أراض بأن «الأمر سيكون مؤلماً» لكن «الخلود للنوم بسلام» هو جل ما تريده.
موقف السيدة الأوكرانية يؤشر إلى انقسام متزايد بين الأوكرانيين، إذ أظهر استطلاع للرأي أجراه المعهد الدولي لعلم الاجتماع في كييف خلال مايو الماضي تأييد 32% من المستطلعة آرائهم، التخلي عن أراضٍ إذا كان ذلك يساعد على إنهاء الحرب، مرتفعة من 26% في فبراير.الحرب عملية مكلفة ومنهكة للغاية، لكن السلام أيضاً له ثمن، وثمنه دائماً غال، فهل يكون مصير الأقاليم الأوكرانية الأربعة التي سيطرت عليها روسيا (دونيتسك، لوغانسك، خيرسون، وزابوريجيا) مشابهاً لشبه جزيرة القرم، أم تنجح أوكرانيا في استغلال سيطرتها على أجزاء من كورسك الروسية؟.. أم تطفو على السطح تسوية أخرى تفرضها معطيات جديدة؟
ماجد الشاذلي – صحيفة الخليج