الصين وإفريقيا في “الزمن الجديد”
بات واضحًا أن الجنوب العالمي فرض نفسه رقمًا مهمًا في معادلات القوة، وأصبح تعزيز التعاون بين إفريقيا والصين أمرًا حيويًا في أجواء عالمية مضطربة، تتسم بعدم اليقين، وتتطلب التعاون لإقامة عالم متعدد الأقطاب.
ومما لاشك فيه بأن مسافة كبيرة قد قطعت في عملية التعاون ما بين الصين وإفريقيا، إلا أن هناك حاجة لعمل المزيد، وفي وجود مصر “بوابة إفريقيا”، وأحد قادة الجنوب العالمي، ثمة فرصة كبيرة لنقل التعاون لآفاق جديدة.
وأحسب أن هذه العلاقات المتنامية بسرعة باتت تسترعي انتباه أطراف عدة، ولم يعد بمقدورها أن تتوقف صامتة لا تفعل شيئًا، ومصالحها في إفريقيا تتعرض للخطر، ألا أن قادة الجنوب العالمي بات لديهم ولشعوبهم متطلبات خاصة، وأصبحت التنمية ورفاهية شعوبهم أهم بند على أولويات بلادهم، ولم تعد الدول الإفريقية تقبل فرض الوصاية أو التدخل في شئونها الداخلية، أو نهب ثرواتها، أو دوامة الحروب التي لا تنتهي.
وفي الوقت نفسه فإن الصين تعرض صيغة “الربح للجميع”، وفي ظل التاريخ الطويل من حسن النوايا مع إفريقيا فهناك مجال للتفاوض وتحسين شروط التعاون.
وتطرح الدول الإفريقية وخبراء القارة مجالات متعددة لتعزيز التعاون مثل زيادة القروض الصينية ذات الفائدة المنخفضة، وزيادات الواردات الصينية من إفريقيا، والتركيز على الإنتاج الصناعي، وتوطين الصناعة الصينية في إفريقيا حتى تصبح أحد سلاسل الإمداد في العالم، وإزالة القيود الجمركية تمامًا مع الدول الإفريقية، فلا زالت هناك 25 دولة أخرى تنتظر بعد تمتع 27 دولة بهذا الإعفاء مع الصين.
وتكتسب هذه النقاشات اهمية خاصة مع اقتراب عقد قمة “منتدى التعاون الصيني الإفريقي” في بكين أوائل سبتمبر بحضور قادة إفريقيا، ويعد المنتدى أداة مهمة “بعد 25 عامًا من تأسيسه” في دفع العلاقات بين الصين والدول الإفريقية. ويرى السفير علي الحفني نائب رئيس جمعية الصداقة المصرية الصينية أن التعاون مع الصين ساهم في “نقلة نوعية” في حياة الأفارقة، وأن دول القارة ومصر تتطلع لدفعة جديدة لمبادرة الحزام والطريق، ودفعة للقطاع الخاص الصيني، والتركيز على الاستثمار الخارجي، وخاصة في دول القارة المهيأة للانطلاق والتحديث.
وفي المقابل تدرك الصين أهمية إفريقيا بالنسبة لها، وهو ما يتبدى في حرص الزعيم الصيني على أن تكون الدول الإفريقية أولى زياراته للعالم الخارجي سنويًا، وهو ما يعكس حيوية العلاقة مع إفريقيا التي تزود بكين ب15% من وارداتها النفطية، وقفزت تجارتها من أقل من 10 مليارات دولار إلى 282 مليار دولار عام 2023، وارتفعت استثماراتها حاليًا 100 ضعف عما كانت عليه عام 2000؛ وهو ما يعكس “حسن نية” من جانب الصين، ومن الجانب الإفريقي، وأن آفاق التعاون بين الجانبين بلا حدود.
ولا شك أن الدوائر الغربية التي تتابع ما يجري في نهر العلاقات الإفريقية الصينية يدرك حيوية الدور المصري، بل وثقل مصر التي ساهمت في تدشين منتدى التعاون، وكانت من أوائل الدول التي انضمت لمبادرة الحزام والطريق.
وباتت انعكاسات ذلك واضحة من خلال أن تزايد التواجد الصيني في مصر، والتي أصبحت أكبر مستثمر أجنبي بقيمة استثمارات 8 مليارات دولار، من خلال 2066 شركة صينية مسجلة في مصر.
وفي الوقت نفسه تحرص القيادة الصينية على تأكيد أهمية التنسيق مع القاهرة، حرص الوزير المفوض بالسفارة الصينية زهاو ليانج في حوار صريح معه على تأكيد أهمية الدور المصري، والشراكة المصرية الصينية، ويرى أن مصر تسير في الاتجاه الصحيح، وأن “مستقبل مصر في الصناعة”، وأن بلاده لديها “الأموال والخبرات”، ومستعدة للتعاون بصورة أكبر مع مصر.
ومثلما تتوسع العلاقات الاقتصادية، والتنسيق السياسي بين الصين وإفريقيا، فثمة مجالات جديدة تتفتح للتعاون بين الجانبين؛ منها زيادة الاستثمار الصيني في التكنولوجيا المالية، والاقتصاد الرقمي ،والتمويل الأخضر.
ويطالب الخبير المصري في الشئون الصينية د.حسن رجب، باستلهام تجربة الصين في التعليم نظرًا للدور الحيوي الذي لعبه في معجزة الصين.
ومن ناحية أخرى فإن مراجعة بسيطة لعلاقات الصين وإفريقيا سوف تكشف عن أن “التضامن الصيني الإفريقي” هو العنصر الأهم الذي تأسست عليه الشراكة الإستراتيجية الشاملة بين إفريقيا والصين، والتحدي هو كيفية التعامل مع المشكلات المستمرة مثل غياب السلام والأمن والاستقرار في العديد من المناطق، مع ضرورة تعظيم جهود القضاء على الفقر في قارتنا، وتوفير التعليم الجيد، والرعاية الصحية للجميع، وكيفية التعامل مع قضايا تغير المناخ، والمساواة المالية، والنمو السكاني، وتحولات القيم الجيلية، والتوترات الجيوسياسية، ونماذج التنمية الجديدة، وآفاق الذكاء الاصطناعي، وإعادة تقييم أنماط الحياة.
أنها قائمة طويلة وجديرة بأن توضع على جدول أعمال قادة الصين وإفريقيا مثلما يرى السفير هشام الزميتي الخبير في الشئون الآسيوية.
ويبقى أن الزمن الجديد يفرض بتفاعلاته الكبيرة تطوير العلاقات بين الصين وإفريقيا، ونظرًا لما نشهده على الساحة الدولية فإن الصراع على إفريقيا ومواردها، وقدرتها الهائلة لتوفير احتياجات العالم من الغذاء والطاقة، والأسواق الكبيرة التي تضم 1,4 مليار نسمة، ومشروعات البنية التحتية الكبيرة جدًا سوف تضع إفريقيا في قلب تحولات النظام الدولي.
..وأحسب أن كل ما سبق يحتم جهدًا أكبر في تعزيز العلاقات ما بين الشعوب، وهنا لابد أن تكون إفريقيا على خريطة السياحة الصينية للعالم الخارجي، خاصة أن هناك 165 مليون سائح صيني سنويا، ويمكن لمصر وحدها أن تستقبل 5 ملايين سائح صيني؛ إذن مطلوب مزيد من الدبلوماسية الشعبية، ومن التعاون الإعلامي، والثقافي، وأن تعرف الشعوب بعضها بصورة أعمق مما يحصن العلاقات من التشويه وسوء الفهم.
وفي النهاية يمكن الانطلاق في الزمن الجديد، وذلك بالبناء على علاقات ترسخت واجتازت اختبارات الزمن، وحقيقة أن مصر هي “البوابة الأرحب” باتجاه إفريقيا، والعالم العربي والإسلامي نحو تعاون إستراتيجي أعمق مع الصين في العقود القادمة..
محمد صابرين – بوابة الأهرام