مِن جمرة إلى جوهرة!
ما منّا من أحد إلا وهو يحبّ دينه ويغار عليه، ويتمنّى من سويداء قلبه أن يظهره الله على الأديان كلّها، ويمكّن له في الأرض، لكنّنا في المقابل ومع ضعف أنفسنا -إلا من رحم الله منّا- نجد مشقّة في التمسّك بديننا، ونجد حرارة في الالتزام بشرائعه وشعائره، نشعر في أنفسنا بأنّ لزوم التكاليف والأوامر والنواهي في هذا الزّمان، زمان الغربة، أصبح صعبا وشاقا.
تُحدّثنا أنفسنا فتقول: الصلوات الخمس تتوزّع على خمسة أوقات محدّدة يتزامن بعضها مع وقت النّوم وبعضها مع وقت العمل؛ ليس من السّهل المحافظة على وضوئها وأوقاتها.. الصيام يتّفق في بعض الأحيان مع أيام الحرّ، وتمتدّ ساعاته لتصل إلى 17 ساعة في أشهر الصّيف.. قراءة القرآن كلّ يوم تحتاج إلى وقت.. الزكاة تأخذ نسبة من الأموال، ومعها صدقات تبذل لبناء المساجد وإعانة الأسر الفقيرة.. الحجّ تُنفق في سبيله الأموال وتُتكبّد المشاقّ.. غض البصر في مثل هذا الزمان الذي انتشر فيه التبرّج في الشّوارع والمدارس والأسواق وشاعت فيه مواقع وقنوات الفساد على شاشات الهواتف والحواسيب والتلفزة؛ تقول لنا أنفسنا إنّ غضّ البصر في مثل هذا الزّمان أصبح صعبا.. الحجاب في هذه الأعوام والأيام التي تعلّقت فيها القلوب بالمظاهر والأزياء والموضة، تقول النّفس الضّعيفة للمؤمنة إنّ المحافظة عليه والتزام شروطه أصبح صعبا.. العفّة في هذا الزّمان الذي بدأت تستشري فيه موضة اتخاذ الخلان أصبحت مطلبا صعبا وغريبا.. بر الوالدين أصبح صعبا في هذه الأيام التي تعلقت فيها القلوب بالأموال وتنكّرت فيه الزّوجة لوالدي زوجها وأصبحت تنظر إليهما على أنّهما سبب للضيق والحرج.. صلة الأرحام أصبحت شاقّة في أيامنا هذه التي استشرى فيها التحاسد والتباغض والتدابر، وهكذا الإحسان إلى الجيران.. حفظ العهود والمواعيد وأداء الأمانات، أصبحت هي الأخرى شاقّة مع شيوع إضاعة الأمانة وإخلاف العهود في هذا الزّمان إلا ما رحم الله.. تربية الأبناء أصبحت عسيرة ومضنية.. الحرص على لقمة الحلال والبعد عن الحرام، أصبحا مطلبين عسيرين.. الثبات على المواقف لم يعد سهلا في زمن ساد فيه التقلّب والتلوّن.. الثبات أمام الشهوات والشبهات لم يعد سهلا.. إنكار المنكرات أصبح يكلّف الكثير… وهكذا، أصبح التمسّك بالدّين في هذا الزّمان كالقبض على الجمر.. ولعلّ زماننا هذا هو الذي عناه الحبيب المصطفى -عليه الصلاة والسلام- حينما قال: “ويل للعرب من شر قد اقترب، فتنا كقطع الليل المظلم، يصبح الرجل مؤمنا ويمسي كافرا، يبيع قوم دينهم بعرض من الدنيا قليل، المتمسك يومئذ بدينه كالقابض على الجمر، أو قال على الشّوك” (رواه الإمام أحمد).
نعم. المتمسّك بدينه في هذا الزّمان أصبح كالقابض على الجمرة، لكنّ هذه الجمرة يمكن أن تتحوّل إلى جوهرة في يد العبد المؤمن الصّادق بفضل الله إن هو استعان بالله أولا، وحرص على وصايا أربع تُحوّل الجمرة في يده إلى جوهرة بإذن الله.
الوصية الأولى: تذكّرِ الثّواب تهنْ عليك مشقّة الطّاعة
لفهم هذه الوصية، تصوّر معي أخي المؤمن أنّك في يوم من الأيام وأنت عائد لتوك من شغل أو سفر وتشعر بتعب بالغ، قيل لك: ما رأيك في أن تركض الآن وأنت في هذه الحال من التعب مسافة 3 كم، ونعطيك مليار سنتيم؟ هل ستقبل العرض؟ وهل ستركض رغم التّعب، أم ترفض؟ الجواب واضح، ستنسى تعبك ولن تهتمّ بالمسافة التي ستركضها، وسيبقى تفكيرك متعلقا بالمليار سنتيم، وستتحوّل إلى فهد وتنطلق دون تردّد ودون تلكؤ.
وهكذا المسلمة التي لا تلبس الحجاب، لو قيل لها: ما رأيك لو تلبسين الحجاب، ولك في كلّ يوم تلبسينه فيه مبلغ يقدّر بمليون سنتيم؟ هل ستقبل هذه المسلمة العرض؟ طبعا ومن دون تردّد، ستلبس الحجاب، وربّما تلبسه باللّيل والنّهار، وفي كلّ مكان، لن تفكّر في خلعه صيفا ولا شتاءً، لأنّها ستخشى إن هي خلعته أن تضيع منها المكافأة، مليون سنتيم كلّ يوم!!!
مثال ثالث: لو قيل لك أخي المؤمن: اختر بين عملين؛ أولهما عمل سهل في بيتك، تأخذ عنه أجرة تقدّر بـ100 دينار كلّ يوم، أي بأجرة شهرية قدرها 3000 دج، والثاني عمل في مكان يبعد عن بيتك 1 كم، تأخذ عنه أجرة يومية تقدّر بـ2700 دج، أي بأجرة شهرية تفوق 8 ملايين سنتيم، أيّ عرض ستختاره يا ترى؟ طبعا ستختار العرض الثاني، وستفضّل العمل بعيدا عن البيت بأجرة مضاعفة.
السّؤال هنا: لماذا نتهافت ونتنافس على العروض المغرية عندما يكون مقابلها مالا يدخل إلى جيوبنا، ولا نتنافس على العروض المغرية، عندما يكون المقابل جبالا من الحسنات تدخل إلى موازيننا؟ لماذا نهتمّ مثلا بعروض شركات الاتصالات (موبيليس، جيزي، أوريدو)، ونهتمّ بأحسنها مزايا وأقلها تكلفة، مع أنّها في الغالب عروض مؤقّتة وربّما تكون خادعة، لكنّنا لا نهتمّ –إلا من رحم الله منّا- بالعروض المتعلّقة بالأعمال الصّالحة في مواسم الخير؟
إنّ الاهتمام بعروض الحسنات سبب من أهمّ الأسباب التي تحوّل الأعمال الصّالحة إلى متعة بدلا من أن تكون مشقّة، وتحوّل الدّين في حياتنا إلى جوهرة بدلا من أن يكون جمرة.. إنّ الفرح الذي يجده العبد المؤمن يوم القيامة بأجور الطّاعات التي صبر عليها في الدّنيا أكبر وأعظم بكثير من فرحه في هذه الدّنيا بالعروض المالية المغرية.. يقول الله تعالى: ((فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ * فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا * وَيَنقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُورًا)) (الانشقاق، 7-9)، ويقول الحبيب المصطفى -صلّى الله عليه وآله وسلّم-: “للصائم فرحتان: فرحة حين يفطر، وفرحة حين يلقى ربه”، وكما يفرح العبد المؤمن بصيامه، فإنّه يفرح أكثر بصلاته التي يجد لها أجورا لم يكن يتصوّرها ولا يتوقّعها، ويتمنّى لو أنّه تزوّد منها أكثر وأكثر، ويفرح بالأجور العظيمة وقناطير الحسنات التي نالها بقراءة القرآن، وتفرح المؤمنة بحجابها وهي ترى ملايير الحسنات التي نالتها بفضل تمسّكها بحجابها، وتتمنّى أن لو كان حجابها في الدنيا أوسع وأسبغ… وهكذا، فتذكّر الثّواب يرغّب في الأعمال الصّالحة ويعين على الصّبر عليها.الوصية الثانية: تذكّرِ العقاب تصعبْ عليك المعصية
تصوّر أخي المؤمن، لو أنّك في أحد الفنادق، وبينما كنت في غرفتك في الطابق العاشر، قد أويت إلى الفراش تريد أن تنام والنّعاس يداعب أجفانك، فجأة دوّت صافرة الإنذار بأنّ حريقا قد نشب في الفندق، وبدأتَ تشمّ رائحة الدخان.. هل ستغطّي اللّحاف على وجهك لتنام غير آبه بما يحدث؟ أم أنّك ستنتفض فزعا، وستبحث عن أقرب مخرج للنّجدة، وإن لم تجد فإنّك ستحاول المغامرة بالنّجاة من خلال النّافذة، وربّما تفضّل أن تسقط إلى الأرض على أن تموت محترقا.. معك الحقّ في هذا، فالأمر يتعلّق بالنّار، لكن أُخيّ! هل نسيت أنّ نار الآخرة أكبر وأعظم؟ يقول الله تعالى: ((قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَوْ كَانُوا يَفْقَهُون))، ويقول النبيّ عليه الصّلاة والسّلام: “ناركم هذه التي توقدون جزءٌ من سبعين جزءًا من نار جهنّم”.. لماذا تسمع نداء الصّلاة في فراشك فتغطّي اللحاف على رأسك وربّما تضع الوسادة على أذنيك ولا تجيب! وأنت تعلم أنّ إخراج صلاة واحدة عن وقتها كبيرة من الكبائر؟ ألا تخشى نار الآخرة؟.. تأمّل أخي المؤمن كيف أنّ تذكّر العقاب يخوّف من المعاصي ويفزّع عنها.
تذكّر أخي المؤمن أنّ الطّاعة مهما كانت ثقيلة على النّفس الأمارة بالسّوء فإنّ مشقتها تذهب وتنتهي، ليبقى أجرها وثوابها، بينما المعصية مهما كانت محبّبة إلى النّفس فإنّها أيضا تذهب، لتبقى حسرتها ويبقى وزرها وعقابها وتعبها.
الوصية الثّالثة: حلّق مع من حلّق
اعلم أخي المؤمن وذكّر نفسك من حين إلى آخر، أنّ من أعظم الأسباب التي تشحذ الهمم للصّبر على الصّالحات، وهجر المعاصي والمخالفات؛ النّظرَ في سير الصالحين، من السابقين واللاحقين، اقرأ عن تقوى الصديق، وعن ورع وخشية عمر، وعن جود وخشوع عثمان، وعن زهد وخضوع علي.. تأمّل تسامح الحسن وجهاد وثبات الحسين.. انظر في ثبات وهمّة وورع أبي حنيفة ومالك والشافعي والباقر والصادق وابن حنبل، وفي ثبات العزّ بن عبد السّلام.. اقرأ في سير أعلام النبلاء لتقف على سير الصّالحين وكيف كانت هممهم عالية في الحرص على الصّالحات وفي الثّبات أمام الفتن والمدلهمّات.. هم بشر مثلك ولكنّهم كانوا طلاب جنة عرضها الأرض والسماوات، فكن مثلهم واقتف آثارهم وجاهد نفسك لتحلّق حيث حلّقوا.. تأمّل كيف ذهب تعبهم وانقضت محنهم وبقيت أجورهم في موازينهم وبقي ذكرهم في العالمين.. تأمّل في المقابل سير المغنين والفنانين، بل تأمّل حال ومآل الظّالمين والمتسلّطين وأصحاب الأموال والمناصب، كيف انتهى ظلمهم وذهب بذخهم ولهوهم ولعبهم وبقي تعبهم، انتهت المتعة وبقيت التبعات والحسرات في الدنيا قبل الآخرة، وبقي الحساب والعتاب والعقاب.. هؤلاء الذين نراهم هذه الأيام يساقون إلى السجون تعلوهم الذلّة ويلفّهم الصّغار، ومنهم من يبكي بكاء الثّكلى، هؤلاء منهم من تقلّد أعلى المناصب وكاد يقول: أنا ربّكم الأعلى! ومنهم من اختلس المليارات من أموال الشّعب المغبون، ومنهم من حابى أقاربه وأحبابه وأصحابه، وها هم الآن لا تنفعهم الأموال ولا الأقارب ولا الأصحاب؛ جعلهم الله آية من آياته الدالّة على صدق وعده ووعيده بالظّالمين: ((وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ * مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ لَا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاء)).. لقد ظلمنا وسرقت أقواتنا وضيّقت معايشنا وأسيلت دموعنا ودماؤنا لأجل أن يعيش هؤلاء الظّالمون حياة البذخ والترف ويعيش أبناؤهم حياة اللّهو والعربدة في عواصم الغرب، وها نحن بفضل الله نرى فيهم عدل الله، ونرى فيهم ما يشفي صدورنا ويجمّ أفئدتنا.. سبحانك ربّنا ما أعدلك! ((قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِير)).
الوصية الرّابعة: عينك على النهاية
هل تساءلت أخي المؤمن يوما: ما الذي يجعل ذلك الشابّ الذي يمارس رياضة كمال الأجسام يتعب ويحمل الأوزان الثقيلة، ومع ذلك يظلّ مستمتعا بتعبه وبالعرق الذي يسيل على جسده؟ طبعا لأنّ عينه على النهاية؛ على العضلات المفتولة، والجسم الممتلئ.. مثال آخر: الطالب الذي يقضي 15 سنة أو أكثر وهو يدرس ويراجع ويسهر اللّيل، لماذا يتحمّل كلّ هذا التّعب؟ ولماذا يصبر كلّ هذه السّنوات؟ الجواب: لأنّ عينه على النهاية، على شهادة النجاح بتفوّق، وعلى الوظيفة المرموقة بعد التخرّج.. وهكذا العبد المؤمن الذي يريد أن تتحوّل مشقّة الطّاعة بالنّسبة إليه إلى متعة، وتتحوّل جمرة الدّين في يده إلى جوهرة، ينبغي أن يجعل عينه على النّهاية؛ على جنّة لا تعب فيها ولا نصب، ولا قلق ولا ضجر ولا وصب. فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر. يقول الشيخ الشعراوي رحمه الله: “لا خير في خير بعده النّار، ولا شرّ في شرّ بعده الجنّة”.
نعم أخي المؤمن.. اعمل وعينك على النهاية الحقيقية الكاملة، على الجنّة، وتذكّر أنّ كلّ آت قريب.. اجعل قدميك على الأرض، وأطلق روحك إلى السّماء.. كن رجل الآخرة الذي يعيش دنياه بجوارحه بينما قلبه متعلّق بالآخرة.. العمر قصير وإلى الله المصير، والله سبحانه عندما تحدّث عن الجنّة قال: ((وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ * هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ * مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ * ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ * لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ)). أخيرا أخي المؤمن.. لا تنس هذه الوصايا الأربع التي تحوّل الجمرة في يدك إلى جوهرة.. تذكّرِ الثّواب تهن عليك مشقّة الطّاعة وتذكّر العقاب تصعب عليك المعصية. حلق مع من حلق، وسلّ نفسك بمطالعة سير الصّالحين. واجعل عينك على النهاية.. مع الوصايا الأربع سيذهب حرّ الجمرة، وستنقلب من جمرة إلى جوهرة.. سيكون الدّين أغلى شيء تملكه في هذه الدّنيا، وسيكون سبب سعادتك في هذه الأولى والآخرة بإذن الله.
(أصل المقال فكرة طرحها الدّكتور الداعية أيمن خليل البلوي).
سلطان بركاني – الشروق الجزائرية