العبقرية.. والصحة النفسية
– أتناولُ هنَا بعضَ خصائصِ العبقريَّةِ البشريَّةِ كمَا فهمتُهَا، والتِي إنْ شِئنَا أنْ نقولَ: تُصيبُ بعضَ النَّاسِ بصورةٍ عشوائيَّةٍ أو فجائيَّةٍ؛ تُشبهُ نوبةَ جُنونٍ عابِرَةً، أو قائِمةً مُتكرِّرةً، ترتبطُ بإنتاجٍ إبداعيٍّ علَى وجهٍ غيرِ مَعهودٍ، وبِطريقةٍ غيرِ مألوفَةٍ سَلفًا.
– يبدُو أنَّ العبقريَّةَ تنشأُ -غالِبًا- مِن الاضطرارِ للهرَبِ، والحاجةِ الشَّديدةِ لإيجادِ مَخرجِ طوارئٍ، نتيجةَ رغبةٍ عارِمةٍ حارِقةٍ للتحرُّرِ مِن سجنِ التَّبعيَّةِ والأفكارِ التقليديَّةِ. إنَّ العبقريَّةَ نتاجُ التشتُّتِ والشَّكِّ، والشُّعورِ بالانحباسِ.. إنَّها الانعتاقُ الوحيدُ الذِي يلجأُ إليهِ نوادرُ النَّاسِ الذِينَ يقترِبُونَ مِن حدِّ الجُنونِ. فقدْ أشارتْ تقاريرُ عِلميَّةٍ حديثةٍ، إلى ارتباطٍ وثيقٍ بينَ العبقريَّةِ وعطَبِ الصحَّةِ النَّفسيَّةِ، كالإصابةِ بالفُصامِ، والاكتئابِ، والاضطرابِ الوِجدانيِّ ثنائيِّ القُطبِ.
– إنَّ النُّفورَ مِن الاختلاطِ بالبشرِ؛ لهُ مَا يبرِّرُهُ لدَى كثيرٍ مِن المُفكِّرِينَ والمُتأمِّلِينَ، والفلاسِفةِ والمُبدعِينَ بشكلٍ خاصٍّ؛ لأنَّ النَّاسَ لَا يُعينُونَ علَى التفرُّدِ وتنميةِ العبقريَّةِ، بلْ يُعيقُونَ الإبداعَ والتَّفكيرَ السَّليمَ؛ ويدفعُونَ للذَّوبانِ معهُم فِي ثقافةِ القطيعِ والاستقطابِ، ناهيكَ عَن التَّفاهةِ. يقولُ الدُّكتورُ «علي الوردي»: (يصحُّ أنْ نقولَ: إنَّ الإنسانَ كلَّما كانَ كثيرَ الاندماجِ فِي مُجتمَعِهِ، اشتدَّ ابتعادُهُ عَن «العبقريَّةِ».. فالشَّخصُ الاجتماعيُّ الذِي يسْعَى للتحبُّبِ للنَّاسِ وكسْبِ رِضاهُم، يَصعُبُ عليهِ أنْ يُبدِعَ الأفكارَ الجديدةَ».- يُلاحَظُ -أيْضًا- أنَّ كثيرًا مِن العباقِرةِ، يُذهَلونَ عَن بعضِ الأمورِ التقليديَّةِ والرُّوتينيَّةِ البسيطةِ المَنطقيَّةِ في نظَرِ غيرِهِم، وقد يُنعتُونَ بالحمَاقةِ والغَرابةِ والابتذالِ، فهُم مُنشغلُونَ بِعالَمِهِم الإبداعيِّ الخاصِّ، الذِي يتخطُّونَ فيهِ أحيانًا، حاجزَ العبقريَّةِ إلى الجُنونِ!.
– والعبقريَّةُ مُرتبطةٌ أيضًا بالثَّوريَّةِ والرَّفضِ والتفرُّدِ والاعتدادِ بالنَّفسِ، وقدْرٍ جيِّدٍ مِن النَّرجسيَّةِ، وهِي تسْتدْعِي الإفراطَ فِي الاهتمامِ، والاستغراقَ، والتعمُّقَ، وتركيزَ الجُهدِ والتأمُّلِ فِي أمرٍ مَا إلى درجةِ الهَوسِ. إنَّ العبقريَّةَ نتاجُ الدَّهشةِ والفَراغِ والتَّفرُّغِ.
– ويتميَّز العَباقرةُ بالاستغلالِ الأمثلِ للومْضاتِ الخاطِفةِ مِن القُدْراتِ الخارِقَةِ، والخيالِ الواسعِ، واتِّقادِ الذِّهنِ وحِدَّةِ البَصيرةِ، وقد يَعنِي هذَا شُعورُهُم بالغُربةِ المُجتمعيَّةِ والوَحدةِ والحُزنِ، وتشتُّتِ التَّركيزِ عن الأمُورِ المَعيشيَّةِ والأحداثِ التي يهتمُّ بِها جُمهورُ النَّاس. يقولُ «دوستويفسكي»: (أليْسَ مُدْهِـشًا أنَّ العَباقرَةَ ليسُوا سُعداءَ -غالبًا- في هذِهِ الحيَاةِ.. بَيْنَما تجِدُ الغَافلِينَ والمُغفَّلِينَ راضِينَ عَن أنفُسِهِم تمَامًا!).
د. أيمن بدر كريم – جريدة المدينة