ضائعون تائهون
في أيامنا هذه، معظم من أتكلم معهم ضائعون تائهون، الكل أصبح يعيش الحياة يومًا بعد يوم في حالة من الضياع وسط زحام الحياة وتشتت الأفكار، حتى في أوروبا، حيث لا زلت أمكث، فقد زرت عدة بلدان خلال إجازتي بما فيها بريطانيا والدنمارك وفرنسا وإيطاليا وألمانيا، وخلال إقامتي هناك دخلت في محادثات مع عدد كبير من الأشخاص الذين أعرفهم من المثقفين ورجال الأعمال الناجحين، إلا أنهم جميعًا يبدون ضائعين، في ذات تلك الحالة التي ألمت بالجميع، لا يعرفون ما يدور من حولهم أو ما يجب عليهم فعله، كل شيء أصبح غامضًا وبعلم الغيب، وحُكم على الجميع بأن يعيش نفس اليوم كل يوم، ضائعين في هذا البحر الغائر من عدم اليقين والتغييرات المفاجئة، لأنهم لم يعودوا قادرين على التفرقة بين من الصح ومن الخطأ، ومن الظالم ومن المظلوم، وما الذي يشمله حقوق الإنسان وما الذي لا يشمله، يبدو أن الجميع قد ضاع.
أذكر أننا كنا في السابق نستطيع أن نقول الخطة الخمسية والخطة العشرية، سواء في استراتيجيات وخطط عمل الشركات أم الحياة الشخصية، لكن الآن أرى أن هناك قلقًا بشأن هذا النوع من التفكير، ولم يعد قائمًا، الجميع لا يستطيع أن يفكر إلى تلك الأبعاد، حتى أننا لا نستطيع التخطيط لفترة سنة واحدة، فالتغييرات الكثيرة والسريعة التي تجري حولنا، سواء كانت اقتصادية أو سياسية أو مناخية، لا تأتي مع فهم مسبق أو توقعات، بل جميعها تظهر بشكل مفاجئ وغير متوقع، مما جعل البشرية تعيش في عالم مليء بالمجهولات.
حتى ألمانيا، الدولة المعروفة بدقتها وتنظيمها واقتصادها الصناعي المزدهر، أصبحت تجد نفسها هذا العام في حالة من عدم اليقين، لا تعرف ما يمكنها إنتاجه ومتى ولمن يمكنها البيع والتصدير، وأرى أنه في هذا السياق يبرز لنا التخطيط الصيني كالتخطيط الوحيد الواضح والذي يبدو أكثر استقرارًا حاليًا، فكل يوم يأتينا بمفاجآت جديدة بكل ثقة وهدوء، لكن على الرغم من ذلك، لا ننكر أن الولايات المتحدة الأمريكية ما زالت تحتفظ بمكانتها كقوة رئيسية في العالم، ولا تزال الحاكم الوحيد، فتنصر من تشاء وتقهر من تشاء، وتفرض إرادتها على من تشاء، وتمارس النفوذ والتأثير بشكل شبه مطلق في التحالفات الدولية والقرارات الاقتصادية العالمية.
وربما تنبع هذه الحالة العالمية من التيه والضياع ليس من الظروف السياسية والاقتصادية فحسب، بل أيضًا في ظل التقدم السريع للتكنولوجيا، إذ تطرقت الدول الكبرى والشركات إلى استخدام الذكاء الاصطناعي والتكنولوجيا الناشئة، مما أدى إلى تغييرات جذرية في طبيعة العمل والاقتصاد بشكل عام مما أثر على الأنشطة التجارية، إضافةً إلى أن التحديات البيئية والمناخية قد تزايدت بصورة ملحوظة، مما جعل الدول والشركات تواجه ضغوطًا جديدة للتكيف وتبني سياسات بيئية أكثر استدامة، فضلاً عن أزمة اللاجئين والهجرة العالمية التي تبقى محورية في الحوار العالمي، والمنافسة العالمية في الاستثمار والبحث والابتكار للبقاء على القمة وتحقيق استدامة التطوير والتميز في هذا العصر المتغير.
وكما ذكرت سابقًا، يشهد العالم تغيرات جذرية في توازن القوى الاقتصادية، وتستمر الصين في توسيع نفوذها الاقتصادي والسياسي بوتيرة متسارعة، محاولةً إزاحة أمريكا عن عرشها والجلوس مكانها، وجميعنا نعلم أن الاقتصادين الأمريكي والصيني هما الأول والثاني عالميًا من حيث الحجم، إذ يشكلان سوية 35% من الناتج الإجمالي العالمي، وإن أضفنا إليهما الهند، القريبة من الولايات المتحدة سياسيًا، ومن الصين جغرافيًا، فسوف تشكل الدول الثلاث نصف الناتج الإجمالي العالمي، و40% من سكان الكرة الأرضية.
وربما تعكس المنافسة الشديدة بين هذه القوى العظمى تحديات جديدة تتطلب الاستعداد التام لعدة جوانب كي لا نضيع وسط هذا الصراع، بما في ذلك الاستعداد للتكنولوجيا المتقدمة، وتبني استراتيجيات اقتصادية مبتكرة، وتعزيز الشراكات الدولية، ومواجهة التحديات البيئية والاجتماعية التي حتمت على العالم بأسره التعاون والتضامن.
ولا يخفى علينا أن القفزة التي حققتها الصين لتصبح ثاني أكبر الاقتصادات في العالم لم تأتِ بمحض الصدفة، فعلى مدار أربعة عقود مضت اعتمدت الصين سلسلة من الإصلاحات الاقتصادية كان من شأنها أن تجعل الصين قوة اقتصادية عظمى، بعدما فتحت الباب أمام الاستثمارات والشركات الأجنبية، ومن ثم أسهمت في زيادة تدفق رؤوس الأموال إلى الاقتصاد بشكل غير مسبوق، ونتيجةً لذلك تحول المشهد الاقتصادي لهذا العملاق الآسيوي من إطار محلي بالكامل يتسم بالتقليدية، إلى مشهد عصري يتسم بالديناميكية، كما اعتمدت الصين على قوتها البشرية العاملة، التي وصلت بنهاية العام 2019 إلى أكثر من 780 مليون نسمة، إضافةً إلى أن الصين تمتلك أكبر احتياطي من النقد الأجنبي في العالم.
وعلى الرغم من ذلك، فإننا جميعًا نعلم أن الولايات المتحدة لا تزال وستظل تمتلك اليد العليا، اقتصاديًا وعسكريًا وسياسيًا، خصوصًا وأنها نسجت تحالفات فاعلة في آسيا، مع اليابان وكوريا الجنوبية والفلبين وأوروبا وأستراليا، وطورت علاقاتها مع الهند، وحتى مع عدوها السابق، فيتنام الشيوعية، التي قال بايدن في أثناء زيارته هانوي في سبتمبر العام الماضي إن العلاقة بين البلدين «دخلت مرحلة جديدة».
لكن مشاكل أمريكا الداخلية والخارجية تتزايد باستمرار، خصوصًا مع اندلاع الحرب في غزة، وإصرار إسرائيل على مواصلة النزاع المسلح، متحدية الرأي العام العالمي، وعلى الرغم من تزايد أعداد الضحايا المدنيين، والذي تسبب في تصاعد الاستنكار الشعبي والرسمي العالمي لاستمرار القصف الإسرائيلي في غزة، ولمواقف الدول المؤيدة لها، خصوصًا الولايات المتحدة، كما أن استمرار الحرب في أوكرانيا، دون تحقيق أي تقدم، باستثناء إيقاف تقدم روسيا للاستيلاء على مزيد من الأراضي، صار يشكل عبئا ماليًا وسياسيًا.
فضلاً عن أن اقتراب موعد الانتخابات الأمريكية، التي لا يمكن التنبؤ بنتائجها، هو الآخر يقلق الحزب الديمقراطي، خصوصًا مع تصاعد التذمر من كلفة الحرب التي تدفعها أمريكا بالدرجة الأولى، وتنامي الرؤى المؤيدة للتركيز على الداخل الأميركي بين مرشحي الحزب الجمهوري، والتخلي عن لعب دور عالمي إلا بحدود تعلق الأمر بالمصالح الأمريكية.
وفي ضوء كل هذه المشاكل والأزمات والاضطرابات العالمية، لم تعد الضغوط السياسية والاقتصادية والعسكرية التي تمارسها الولايات المتحدة والصين ضد بعضهما البعض منذ سبع سنوات مجدية، ولا يمكن أن تكون سبيلًا ناجحًا لحل المشاكل العالقة بينهما والتي تؤثر على المشهد السياسي والاقتصادي الدولي، وبعد مرور كل هذه الفترة من الشد والجذب، عرف كل منهما حدود قدراته، وحان الآن وقت الحلول التفاوضية والعمل المشترك بين جميع الدول والقارات والتحالفات.
أكرم مكناس – الأيام البحرينية